المدارس الفرنسية، الباكستانية، الأميركية، في دمشق، هي مدارس خاصة تعلّم طلابها من ابناء جاليات هذه الدول المناهج المدرسية الرسمية لدولهم. اما طلابها السوريون والعرب الآخرون فهم ممن استطاعوا الحصول على موافقة وزير التربية السورية على السماح بدخول هذه المدارس. وبعد هذا كله همّ ابناء الأسر التي تسمح لها ظروفها المادية بدفع اقساط سنوية تتجاوز 100 الف ليرة سورية، وترتفع بارتفاع الصفوف. كما تصل احياناً الى ثلاثة أضعاف الراتب السنوي لموظف سوري يحمل شهادة جامعية. تؤهل "المدرسة الفرنسية" على سبيل المثال طلابها لدخول الجامعات في فرنسا وفي كندا بعد النجاح في مسابقة القبول، وفي جامعات بيروت بعد النجاح في شرط القبول كما القاهرة والجامعات الدولية، وذلك بعد البكالوريا. كما تتيح للطالب بعد البكالوريا الدخول في قسم الأدب الفرنسي فقط في جامعة دمشق، حسب شروط الجامعة السورية. وفي وسع اي طالب في المدارس الرسمية السورية أن ينظر بعين الحسد، الى الكتب المدرسية الاجنبية البديعة الطباعة والتصوير والخطّ والوضوح والتي تصلح كدليل منهجي متكامل في كل مادة من المواد الدراسية، في حين لا تزال الكتب المدرسية السورية بدائية الطباعة والتصوير والاخراج، لكنها تضاهي المناهج الاخرى في المستوى العلمي والتعليمي في معظم المواد كالرياضيات والفيزياء. تضمّ المدارس الأجنبية ابناء الديبلوماسيين والسياسيين والعائلات العريقة، ما يعكس ثقتهم بها، وبالمستقبل الذي توفّره، اكثر بكثير من ثقتهم بالمدارس الرسمية الوطنية. فيكون مجتمع هذه المدارس، راقياً، خاصاً، فوق الواقع، غير حقيقي، معزولاً عن الشارع، يتم تخطيط مستقبل التلميذ فيه، منذ نعومة دفاتره، باتجاه التميز، والخصوصية التي توارثها هذا الطالب كحقّ مكتسب. ليس في هذا الكلام انتقاد لهذه المدارس. بالعكس، هي فرصة انفتاح حقيقية على اللغات والثقافات الاخرى بل العيش لاحقاً في هذه المجتمعات لمن تسمح ظروفه باغتنام فرصة السعادة هذه وهي: "مستقبل الأبناء المضمون"، الأمر الذي تعاني منه معظم العائلات السورية، ممن باتت لديهم معدلات النجاح في البكالوريا الرسمية ومعدّلات القبول في فروع الجامعات هي الموجّه لإبرة الرغبات والمواهب والمستقبل، بصرف النظر عن رغبة الطالب في اختيار الفرع الجامعي الذي يريد. الخروج من جامعاتنا بات كدخولها، فالعمل اللائق ليس مضموناً الا لمن تساعده ظروفه. والظروف اغلب الاحيان هي: اما التفوق الدراسي، او دعم الأسرة المادي. وما فكرة الهجرة الى كندا وأخواتها الا حلماً يراود اذهان بعض الأسر ومفاده: ضمان مستقبل الأبناء. لا أدّعي الفهم بحلّ هذه المعضلة الجوهرية، لكنني اذ أُلامس جوانب هذه الأزمة هنا وهناك، أرى ان انفتاحاً جذرياً باتجاه تشخيص جوهر المشكلة يجب ان يتمّ، وأترك الأمر لأولي الأمر، وإلا فستزيد عزلة الشباب عزلة وسيصبح المستقبل عبئاً على الحاضر، وسنستمر في خسارة معنوية أشدّ، هي حماسة الشباب للحياة، واستعدادهم لقبول ما تيسر منها. وإذا كان المعهد العالي للموسيقى والمسرح، مثلاً نافذة حضارية، أضيفت الى الفروع الجامعية في سورية، فإن خريجي المعهد بدورهم بدأوا يعانون البطالة. فالممثل لا يجد الاستقرار في حياته المهنية بسبب عدم توفر العمل الدائم والمستقر. فثمة شروط سوق عمل أيضاً في هذا المجال. وخريج الموسيقى، اذا لم يصبح عضواً في الفرقة السيمفونية الوطنية او استاذاً او يذهب الى التخصص، فسيصبح بدوره، وعلى رغم دراسته الابداعية، جزءاً من الجسم البيروقراطي الأوسع... هي مشكلة كونية وليست محلية، لكنني لن أتحدث عن "بطالة الشباب" في فرنسا لكي ألمس عرضاً البطالة في سورية! فأي مستقبل رتيب هذا، الذي لا يُبنى على فرص الأمل المفتوحة على حياة متعددة المواهب والخيارات والاحتمالات والسعادات، وبالتالي: القوة وتحقيق الحاجات، حتى تصبح هذه الحاجة الفردية والحاجة الاجتماعية وجهين لنفس السعادة، مبتعدين بذلك ومقتربين في آن من الدرس الذي تعلمه "الزنجي مولى" في "المخطوط القرمزي" لأنطونيو غالا، حين خاطب مولى أبي عبدالله الصغير قائلاً: "تعلمت من الأندلسيين أفضل درس: تقليص الحاجات من اجل تقليص العذابات، التي يكلف اشباعها كثيراً. وهكذا توصّلت الى ان الاشياء التي احتاجها صارت قليلة جداً، وهذه الأشياء القليلة احتاجها قليلاً جداً. لأن السعادة الحقيقية يا صديقي ليست في ان تملك وإنما في ألاّ تحتاج". * كاتبة سورية.