لسِيَر المديرين العامين، الذين عينتهم حديثاً الحكومة الجديدة في لبنان، سياقات تكاد تكون واحدة، منذ ولادتهم ونشأتهم، وحتى تسلّمهم قيادة الادارة اللبنانية. فقد اختيروا، في غالبيتهم، من الملاك الاداري لا من خارجه كما فعلت الحكومة السابقة في معظم تعييناتها. يتحدر معظمهم من عائلات فقيرة ريفية تطلب تعليم ابنائها منها كفاحاً حقيقياً. وبدأوا دراستهم الابتدائية في مدارس قراهم ومدنهم الرسمية والاهلية، وكثيرون منهم تعلموا قبل دخولهم المدرسة على مشايخ القرى، خصوصاً الشيعة منهم واكتسبوا منهم ملامح شخصية ولغوية وقيمية قبل ولوجهم التعليم المدني أو اثنائه. جميعهم من مواليد العام 1938، والتحقوا بالادارة اللبنانية نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، أي بداية العهد الشهابي وخلاله. كان ارتقاءً طبيعياً ومصحوباً بدرجة عالية من الاجتهاد ما حصل لهؤلاء المديرين والادارة اللبنانية ولا تكاد تقطعه أو تسرع فيه ظروف انتماءاتهم الاجتماعية والطائفية والسياسية الى ان جاءت الحرب وعطّلت كل شيء. كثيرون منهم ابناء مناطق قذفت بها الأقدار الى كنف الجمهورية اللبنانية الناشئة والصاعدة آنذاك. كما هي حال عبداللطيف قطيش وخليل ماجد وبعضهم ابناء هوامش الكتل الاجتماعية الكبيرة سميح الريس وهو ماروني من بلدة روم حيث الموارنة قلة في البلدة، وجوزيف عبد الاحد وهو من طائفة السريان الذين طالما اشتكوا من احتلال ابناء الطوائف المسيحية الكبرى الوظائف والمواقع. أما ابناء المدن منهم فهم من صنف مشابه، من عائلات صغيرة وضعيفة التأثير انتخابياً وفقيرة أيضاً كحال عصام بكداش الرئيس الجديد لمجلس ادارة مرفأ بيروت. الدولة اللبنانية في بداية نشأتها وفّرت لهؤلاء فرص التعلم والانتقال الى المدن والجامعات. ثم جاءت "الشهابية" لتتيح لهم إمكان دخول الادارة بحدٍ أدنى من الشروط السياسية والطائفية والاجتماعية. ولهذا يبدو غريباً بعض الشيء ان تنخرط كتل اجتماعية مهمّشة في حرب على دولة وادارة وسياسة كانت بدأت تستدخلها وتستوعبها في آلية عملها الداخلي، أي ان هذه الكتل باشرت الحرب من حيث كان يجب ان تنهيها. ولعل في سير هؤلاء المديرين بعض المضامين الموحية في هذا المجال، ولا سيما المسلمون منهم. انخرطوا في النصف الثاني من الخمسينات، وكانوا لم يتجاوزوا العشرين من العمر في حركات عروبية كان يعج بها الشارع الاسلامي، اربعة منهم انتسبوا الى حزب البعث أو ناصروه. كانوا فتياناً عند حصول نكبة فلسطين، وصور النكبة ماثلة أمامهم، مهجرين ومخيمات واخباراً عن المجازر التي حصلت في القرى الفلسطينية، وكان البعث حزب الشريحة المثقفة والمتعلمة من العروبيين، في الخمسينات، فمزج هؤلاء بين انتمائهم للبعث واعجابهم بعبدالناصر الصاعد نجمه ايضاً في تلك المرحلة، ولم يسلموا من تأثيرات بيئاتهم الاهلية الذاهبة آنذاك الى ما سمي بثورة ال 58 التي قامت في وجه رئيس الجمهورية كميل شمعون. ولكن، وخلافاً للسياقات العامة، قطع هؤلاء أي علاقة لهم بالسياسة بما هي عمل حزبي وتحريضي ما ان التحقوا بالادارة في نهاية الخمسينات. إنهم يتحدثون عن الادارة كأنها انتماء بديل عوّض وألغى الحاجة الى الانخراط بما كان يعج به الشارع، ووظفوا فيه طاقة التفوق التي سبق ان ميزتهم خلال دراستهم، وفي حياتهم السياسية والاهلية في أغلب الظن. انتماء قطع امكان استئناف الحياة من حيث بدأها غيرهم في الاحزاب، وانتهت بهم الى الانخراط في الحرب. وفي الوقت نفسه كانت قطيعة هادئة، لم تشبها تحولات كبرى، حتى هم لم يجهدوا انفسهم في تحليل اسباب ما اصابهم من تحولات واكتشافها. فيقول خالد عبدالصمد "تعرّفت في أول شبابي الى حزب البعث، وقبلها تعاطفت مع القوميين العرب ووزّعت منشورهم الشهير الثأر. وفي الجامعة تعرّفت قليلاً الى الحزب الشيوعي، وأغرتني شعاراته المتعلقة بالديموقراطية والكادحين والمساواة، ولكن على رغم كل شيء لم يعد يثيرني ما ان انتسبت الى معهد المعلمين العالي أي شيء. ولا أذكر انني انجذبت بعدها الى اي فكرة عامة، لا أدري لماذا؟ هل انتهى في مرحلة دار المعلمين العالية كل ميل لدي لأبدأ من جديد طالباً جامعياً متحسساً مسؤولياتي العائلية والادارية؟ أم انبعثت من جديد في وجداني تلك التربية البيتية والاجتماعية التي تقول بالابتعاد عن الاحزاب؟". وهذه حال خليل ماجد ايضاً الذي يقول "في النصف الثاني من الخمسينات كانت الموجة السائدة هي القومية العربية والاحزاب التي تدور في هذا الفلك. وكنت أميل الى حزب البعث من دون ان انتسب اليه. وتعاونت مع البعثيين ولكن لاحقاً ومنذ بداية الستينات بدأ يتكوّن لدي اقتناع اننا في العالم الثالث لدينا افكار قد تكون جيدة لكن ممارستها أمر عقيم. رأيت ان هذه الموجة يشوبها الكثير من الانتهازية وان الانسان الجيد هو الذي يحاول تقريب ما يفعله مما يقوله، وهو ما يمكن ان أفعله من خلال عملي ووظيفتي". أما عبداللطيف قطيش فقد كانت بعثيته جزءاً من مناخ عام خفُت تأثيره فيه بعد التحاقه بالادارة كما يقول. ومن هم مختلفون في اوصافهم ونشأتهم من المديرين العامين المعينين حديثاً، لا تخلو أجوبتهم عن شبابهم ونشأتهم من معايير ومعانٍ مشابهة، كعصام بكداش البيروتي المقاصدي الذي سبق زملاءه بسبب مقاصديته، ربما الى قصر انتمائه على الادارة وحدها، واعتباره العمل فيها انخراطاً في الشأن العام. وهو يعتبر ان انتماءه الى العروبة أشمل من الحزبيات الضيقة، وهو كالكثيرين من ابناء المدن لم يشعر قبلاً برغبة في الثورة، لكنه مشحون بالطموح والنشاط. ومن يشترك من المسيحيين مع زملائه المسلمين في تلقفه فرصة اقتصار معايير التوظيف على الكفاية في العهد الشهابي، لا يقتصر في التعبير عن حرمانات خففت منها الشهابية الادارية كسميح الريس الماروني ابن بلدة روم البعيدة عن مركز التأثير والاستقطاب المارونيين، أي جبل لبنان، فهو سلك في الحياة والادارة مسلك زملائه الآخرين، متحدراً من عائلة فقيرة، ومجتهداً في دروسه وناجحاً في مباراة دخول المعهد الوطني للادارة بعد قضائه سنوات في التعليم الابتدائي، وانتسابه خلالها الى مدارس ثانوية والى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية. وقد يكون نأي منبته الاجتماعي وانتماؤه الطرفي في الوقت نفسه الى طائفة معينة كثيراً بهموم الصراع الحزبي والسياسي في لبنان، احد اسباب ابتعاده عن الاحزاب التي يشبه موقفه منها مواقف زملائه بعد تركهم لها، وهو "ان الاحزاب شخصية وضيقة اكثر منها عقائدية ومنفتحة". وفي اسلوب رواية المديرين العامين الجدد لسيرهم، ما ينبىء باحتفاظهم على مدى تجربتهم مع الادارة بثقافة عامة قد تكون طاغية على الثقافة التخصصية. وهذا من سمات المناهج التعليمية التي تلقوها في الاربعينات. معظمهم مثلاً مطلع أو أكثر على صنوف الادب والشعر العربي التقليدي، وبعضهم حصّل معارف أدبية وصيغاً لغوية وكلامية فصيحة من محيطه العائلي والقروي، فقد درس عدد منهم على مشايخ القرى قبل ولوجهم ابواب التعليم المدني. فعبداللطيف قطيش الذي لم يكن استعد بما فيه الكفاية لامتحانات شهادة البكالوريا في النصف الاول من الخمسينات بسبب انشغاله بمقررات دار المعلمين التي انتسب اليها، ما ان أنهى الشهادة المتوسطة، تمكن كما يقول بسبب "ثقافته العامة" من النجاح في البكالوريا، لأن سؤال الادب العربي جاء عن المتنبي الذي يحفظه منذ صغره. وهو ما زال يذكر الى اليوم مقدمة الموضوع الذي كتبه عن المتنبي وتشي ببلاغة وإطناب اكتسبهما من إقبال أهله وابناء القرى الجنوبية على قراءة الشعر في مجالسهم وعلى تراسلهم به وحفظهم له. فيكتب عن المتنبي "عرفته شاعراً مادحاً لمن أعجبته شخصيتهم كسيف الدولة وبدر بن عمار، وعرفته شاعراً راثياً لمن عز عليه ان يفقدهم كجدته وأخت سيف الدولة، وعرفته شاعراً هاجياً لمن وعده وأخلف بوعده ككافور، ولمن طلب منه المديح ولم يكن على مستواه فحبسه وبعد اطلاقه هجاه كإبن كيغلة، وعرفته شاعراً فخوراً في أغلب شعره، وعرفته اكثر من ذلك كله شاعراً حكيماً في مدحه ورثائه وهجائه وفخره". في حين يستعمل خالد عبدالصمد الدرزي وابن جبل لبنان لغة حصلها من تجربة أخرى استعان فيها بفصاحة لبنانية وتعليمية كأن يقول معدداً أولاده "عندما ولدت ابنتي البكر قلت خيراً، وتمنيت ان يأتيني الخير فعلاً فسميتها ديمة تيمناً بالمطر وألغيث. وعندما جاءني الصبي كان لا بد من ان استكمل الخير بفتوحات، ومن مثل طارق لها، ثم جاءني الولد الثالث فقلت جاءني الخير وتمت الفتوحات وبقي العدل فكان عمر". لم يدفعهم دخولهم الادارة الى قطيعة مع أي شيء نشأوا عليه، خلافاً للانتماءات الاخرى التي رافقت انتماءهم الى الادارة وأملت قطيعة حادة وولدت أزمات لا حصر لها. فهم المديرون ما زالوا الى اليوم محتفظين بملامح وهيئات محلية واهلية، والادارة كما يعتقدون ليست أرقاماً وقوانين فحسب بل هي ايضاً صلة بالناس وبمصالحهم ومعرفة بأخلاقهم وثقافاتهم. انهم نخبة جيلهم وصورته النقية وتكشف سيرهم جوانب مهمة وضرورية لفهم معاني وصولهم اليوم الى رأس الهرم الاداري. فسميح الريس الذي ولد في روم سنة 1938 من عائلة تعمل في الزراعة التحق في بداية تعلّمه بمدرسة روم الرسمية وبقي فيها حتى الصف الثالث الابتدائي. وانتقل بعدها بسبب رغبة والده في تعليمه الى بلدة مشموشة القريبة فالتحق بمدرسة دير سيدة مشموشة التابعة للرهبانية المارونية اللبنانية. واستمر فيها متفوقاً حتى أنهى المرحلة المتوسطة. ويقول ان الفضل في تعلّمه، مع كثير من ابناء منطقة جزين، يعود الى الرهبانية المارونية "اذ كانت الاقساط متدنية جداً مما سمح لامثالنا بتلقي العلم، وبالفوز بشهادتي السرتفيكا والبريفيه بفرعيها الفرنسي والعربي". ثم تقدم الى امتحانات دار المعلمين الابتدائيين ونجح وانتقل الى بيروت، وبعد انهائه مقررات الدار التحق مدرساً في احدى مدارس رأس بيروت، واثناء دراسته في دار المعلمين، انتسب الى معهد البكالوريا المسائي وحاز البكالوريا والفلسفة اثناء عمله في التعليم، ثم انتسب الى كلية الحقوق في الصنائع، ونال الاجازة في الحقوق، وبعدها تقدم بامتحان دخول الى المعهد الوطني للادارة في مجلس الخدمة المدنية ونجح، وعيّن مراقباً مالياً في وزارة الموارد. ونقل في العام 1970 الى التفتيش المركزي وعيّن مفتشاً مالياً وبقي في هذه الوظيفة حتى تاريخ تعيينه مديراً عاماً لوزارة النفط. وولد عبداللطيف قطيش في بلدة عيناتا قضاء بنت جبيل سنة 1938، من عائلة فقيرة أيضاً، والتحق اول وعيه بمدرسة التعليم القرآني في البلدة ثم انتقل الى مدرسة بنت جبيل الرسمية التي نال فيها الشهادة الابتدائية. وكان له شقيق أكبر منه يدرس في الثانوية الجعفرية في صور، وكان أعفي من الاقساط بسبب تفوقه، فانتقل هو ايضاً الى الجعفرية ليعفى بدوره من الاقساط بتفوقه ايضاً، وأنهى الشهادة المتوسطة فيها. لم يقبل طلب قطيش في دار المعلمين التي تقدم اليها إسوة بشقيقه ايضاً بسبب صغر سنه، فعاد الى صور لينجح في الصف الاول الثانوي وليعاود في العام التالي محاولة انتسابه الى دار المعلمين التي نجح فيها، واكتشف اثناء دراسته انه يستطيع انجاز شهادة البكالوريا مع انه يدرس مقرراتها مساءً. ويقول "ان الفقر والعوز كانا شديدين ولكن كانت ارادتي بالتعلم أقوى". فأنهى دار المعلمين وعيّن مدرساً في التعليم الابتدائي، لينجز بعدها شهادة الفلسفة. وانتسب الى الجامعة اللبنانية - كلية الحقوق والعلوم السياسية ونال فيها شهادتين في الحقوق والعلوم السياسية ثم تقدم الى امتحانات معهد الادارة ونجح فيها ليخضع لدورة معجلة عيّن بعدها مفتشاً مالياً. ويقول "عينت في أكثر المراكز حساسية من دون اي واسطة، وأنا لا أملك رصيداً انتخابياً ولم يسبق لي ان وقفت على باب أي مسؤول وأهلي ايضاً كانوا بسطاء ولا يعرفون شيئاً ولم يسألوني يوماً عما أفعله، وهم أصلاً لا يعرفون كيف يسألون". واستمر مفتشاً مالياً الى العام 1989 اذ عيّن مستشاراً لوزير المال وانتقل بعدها الى مركز شاغر هو رئيس مصلحة الخزينة في وزارة المال وبقي فيه الى ان عيّن اخيراً مديراً عاماً للتعليم المهني والتقني. وتتشابه سير المديرين العامين هؤلاء في التفاصيل ايضاً لا في السياقات العامة، فخالد عبدالصمد لم يكن أقل معاناة من الفقر والعوز خلال تعلمه وتنقله بين المدارس الرسمية، وهو ايضاً تقدم الى دار المعلمين ما ان أنهى الشهادة المتوسطة بناء على نصيحة أهله ايضاً، ولم يقبل فيه ايضاً لصغر سنه ليتحوّل الى الدروس الثانوية ولينهي شهادة الفلسفة، ثم اختبار معهد المعلمين العالي ولادراكه صعوبة انتسابه الى كلية الطب وهو الاختصاص الذي كان يرغب في ان ينجزه، وعيّن استاذاً ثانوياً في صيدا ثلاث سنوات، تابع خلالها دراسة الحقوق التي نال شهادتها في العام 1965. وفي العام 1969 انتقي ليكون مديراً لثانوية عاليه المزمع انشاؤها. وباشر تأسيس الثانوية ونقلها من ثانوية فيها نحو ثلاثين طالباً الى ثانوية تضم نحو 1300 طالب. وتمكن "الاستاذ خالد" وحضوره الاجتماعي في المنطقة من ان يحيدها عن النزاعات السياسية والاهلية التي كانت بدأت تحتدم في النصف الاول من السبعينات. بعدها شعر برغبة في الانتقال الى ملاك الادارة مما يتيح له توظيف طاقاته التي بدأت تضيق بها الثانوية. وانتقل الى مديرية التعليم الثانوي وعمل مساعداً للمدير العام فيها حتى سنة 1987 تسلم بعدها منصب رئيس الديوان في الوزارة، ورفع في العام 1995 الى الفئة الثانية واصبح مراقباً للدروس لشؤون الابحاث والمنشورات ولكن من دون عمل فعلي، لان لا ابحاثاً ولا منشورات في الوزارة، فابتكر فكرة انشاء مجلة عن الادارة اللبنانية وأنجز المشروع، وهي لا تزال تصدر حتى اليوم. وولد خليل ماجد سنة 1938 في بلدة خربة سلم لعائلة فقيرة. وتنقل اثناء تلقيه دروسه بين مدارس رسمية في الجنوب وبيروت. ويقول "بعد انهائي المرحلة المتوسطة كنت أميل الى الانتساب الى الفرع العلمي. لكن المثال كان من سبقونا من ابناء قريتنا الى المدارس وهم اختاروا في معظمهم الاختصاص الادبي لرغبتهم في ان يصبحوا مدرسين رسميين، فتسجلت في الفرع الأدبي أسوة باختبار أسلافي، وكانت تجربة قاسية إذ اضطررت إلى بذل جهود كبيرة لتحسين مستواي في المواد الادبية بعدما كانت اهتماماتي تركزت على المواد العلمية". لم يتمكن من السفر للتخصص وكانت الجامعة اللبنانية انشئت حديثاً فانتسب الى كلية الحقوق وعمل في الوقت نفسه مساعداً قضائياً. وبعد اشكال حصل معه في وزارة العدل انتقل الى العمل محاسباً ثم أمين سر مصلحة مياه جبل عامل. وتقدم بعدها الى مباراة حصلت لاختيار مفتشين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ونجح فيها وترقى في اسلاك التفتيش الى ان عيّن مديراً لتفتيش المؤسسات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فئة أولى عام 1995 وبقي في هذا المنصب الى حين تعيينه مديراً عاماً للضمان الاجتماعي. واثناء وجوده وترقيه في الضمان عمل استاذاً محاضراً في الجامعة اللبنانية - كلية الحقوق والعلوم السياسية والجامعة اليسوعية. انتقي المديرون من قلائل ما زالوا يجمعون الى عملهم في الادارة النزاهة والاجتهاد ومقداراً كبيراً وثقيلاً من الاستقامة التي قد تبدو للوهلة الاولى تماماً كما اذواقهم ولباسهم جميعها من زمن كانت فيه للاشياء قيمة مختلفة. وقد يميل البعض الى الاعتقاد أو التساؤل: كيف يمكن لمن هذه حالتهم التصدي للإدارة اللبنانية المهترئة وقيادتها؟ لكنهم ابناء هذه الإدارة ومعرفتهم لأسلاكها وملاكاتها وخبرتهم فيها تفوق خبرة من حلوا محلهم. وما ان تقابلهم حتى تشرع في التساؤل انت الذي فقد كل أمل في إصلاح الادارة، أين كان هؤلاء وماذا كانوا يفعلون في سنوات الفساد الطويلة، ويأتي جوابهم ممتزجاً مع مرارة حقيقية "كنا رؤساء مصالح معطل دورها ومستعاض عنها بادارات رديفة انشأها العهد السابق، أو كنا ممنوعين من تبوؤ مراكز قيادية في الادارة بسبب جهلنا أصول العلاقة مع السياسيين، أو كنا مستبعدين بسبب حاجة السياسيين الى اداريين مناصرين لهم". واخيراً وقبل تقاعدهم بسنتين أو ثلاث، أنصف هؤلاء، ولكن بمقدار ما كان هذا الانصاف عادلاً، كان ايضاً مصدر اسىً بسبب تأخره الذي سيحد بلا شك من طموحاتهم في اعادة الادارة الى بعض ما كانت عليه في أيامهم، ويستعين خالد عبدالصمد في وصف تأخر تعيينه مديراً عاماً بجواب جرير عندما سئل عن الأخطل "لقد أدركنا الأخطل وله ناب واحدة، ولو أدركناه وله نابان، لأكلنا بهما جميعاً". - مقولة عدم تمثل الادارة الحديثة بهم تستفز المديرين العامين الجدد كثيراً مواجهتهم بسؤال طرحه سياسيون، ما ان عينوا، عن ان الادارة الحديثة لا تتمثل بهم، وان نزاهتهم وعصاميتهم اللتين قد لا يختلف عليها اثنان، لن تمكنهم في الضرورة من نقل الادارة اللبنانية الى مستويات متقدمة في عالم الاتصالات والتقنيات المتطورة. فيقول عبداللطيف قطيش "نحن نريد ان نسأل ايضاً: لماذا لم تبرز هذه الخشية الا الآن؟ فمعظم الموظفين والمديرين السابقين لم يكونوا على حد علمي على صلة بتقنيات العصر. ثم ان مطلقي هذه التساؤلات كانوا في السابق متمكنين وقادرين على وضع من يريدون في الادارة فلماذا لم يفعلوا؟". ويربط قطيش بين استبعادهم السابق من تبوؤ القيادة الادارية وتوجهات لتهميش الادارة ودور الدولة وتقليصه الى حده الأدنى إفساحاً في المجال امام القطاع الخاص. "فما كان يحصل هو تفريغ الادارة من داخلها وإرباكها بادارات موازية. وعدم تمكينها من التلبية السريعة، حتى تتأكد مقولة عدم صلاح الدولة، وسأعطي مثالاً على ذلك قطاع الكهرباء الذي كان ناشطاً ومزدهراً، وفي مرحلة من المراحل كان لبنان يبيع الكهرباء الى سورية. اما الآن فهو عاجز وطرح في العهد السابق تلزيم الجباية، فهل هناك أغرب من هذا القول! فالجباية تعني اجبار الناس على الدفع كرهاً، فيما لو تخلفوا عن الدفع طوعاً، يعني اللجوء الى السلطة العامة. نلزم الجباية للقطاع الخاص ونوكل الى القطاع العام حماية جباة القطاع الخاص؟ فلماذا لا تجبي الدولة اذاً؟. اعتقد ان مواكبة العصر لا تتم من خلال شرائنا الآلات الحديثة وادارتها، وانما هي في جوهرها ذهنية منفتحة على العصر ومواكبة لمشكلات العالم". وفي ما يتعلق بإدارته يلفت قطيش الى ان ما تعانيه وزارة التعليم المهني والتقني، هو مشكلة ضبط الاهدار قبل ان تكون مشكلة تحديثها. ويعتقد ان الاموال التي صرفت في هذا القطاع "كانت ستثمر انتاجية اكبر لولا الاهدار الكبير وستكون خطتنا في البداية ضبط هذا الاهدار في مجالات تمويل بعض المسائل التي تخص التعليم المهني والتقني وتفعيله وتزويده الاجهزة وتدريب المدربين، اضافة الى استكشاف حاجات المجتمع اللبناني المهنية والتقنية في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، لنبني على اساسها مناهج التعليم والاختصاصات". ويختم "لقد جاءت بنا الى رأس الهرم الاداري شهابية جديدة مع صعوبات مضاعفة ومهمات اضافية تتمثل ليس فقط في بناء الادارة بل تنظيفها أيضاً". أما خالد عبدالصمد فيقول "مقولة إن الادارة الحديثة لا تتمثل فينا افتراض قاسٍ، ومن الظلم ان يقال لانسان في بداية عهده من اجل تسجيل نقاط سياسية انك لا تصلح لمواجهة القرن الواحد والعشرين. نحن اصحاب معرفة متخصصة في الادارة، وهي سبق ان ارسلتنا الى الكثير من دول العالم المتقدم لنطلع على تقنيات الادارة الحديثة. انا ذهبت الى فرنسا وكندا، ومعظمنا يحسن استخدام وسائل الاتصال، وسبق ان فتحنا صفحات خاصة بنا على شبكة الانترنت. ونعرف ايضاً ان الادارة الحديثة معرفة بالثقافات والازمات في العالم. اما في وزارة المهجرين فلا اعتقد ان مشكلتها تقنية!"