مثلما بدأ حياته الأدبية في العام 1961 عبر الاحتجاج والرفض في روايته "المهزومون" أنهى هاني الراهب حياته الأدبية رافضاً ومتمرّداً في روايته الأخيرة "رسمت خطاً في الرمال". وبين السجال الذي أثارته روايته "العبثية" الأولى في مطلع الستينات والنقاش الذي أثارته روايته الاخيرة خصوصاً في الكويت حيث أقام طوال سنوات، لم يتوانَ الروائي السوري الذي رحل ليل أول من أمس عن إذكاء نار الجدل السياسي والتاريخي وعن أعلان بعض المواقف الرافضة، ولعلّ نبرته الاحتجاجية والمعارضة أدّت الى فصله مرّتين من اتحاد الكتاب العرب في سورية، الأولى في 1969 عندما واجه الاتحاد كمؤسسة تتعالى أو تتعجرف على الكتّاب وترفض النصوص الجديدة والطليعية. والثانية في 1995 حين ألقى عليه الاتحاد تهمة "التطبيع" الثقافي بين "العرب واليهود" وكان كتب للتوّ مقالة في مجلة "العربي" حملت عنواناً مثيراً هو: "لماذا نخشى الثقافة الاسرائىلية؟". إلا ان هاني الراهب الذي جعل من الهموم والقضايا العربية، السياسية والتاريخية، مادة روائية بامتياز كان يفهم "النضال" السياسي والصراع العربي - الاسرائىلي على طريقته "التنويرية". وكان هو غداة "تشريحه" هزيمة حزيران 1967 في روايته الشهيرة "ألف ليلة وليلتان" عبّر أكثر من مرة ان النضال لا يعني نظم "مدائح" للفدائيين أو غزليات في الصفات العربية النبيلة أو "هجائيات" في الاستعمار والصهيونية. وشدّد على قضية "الفداء" التي ينبغي بحسب رأيه ان يبحث العرب عنها ويعملوا على ترسيخها. وفي خلاصة روايته تلك ان هزيمة 1967 لم تحصل عقب الانكسار العسكري فهي كانت متجذرة في أعماق الحياة العربية. ولم يكن الخامس من حزيران يونيو غير اندلاع حاد ومأسوي لشرارتها الحارقة. وانطلاقاً من وعيه السياسي والتاريخي وسعياً الى البحث عن نهضة حضارية عربية دأب الراهب على معالجة أشدّ القضايا والهموم راهنية وتأزماً وعلى فضح ما يعاني الفرد والجماعة على السواء من أزمات حياتية وفكرية، وجدانية ووجودية. وقد استند الى التأمل الفلسفي حيناً وعلم النفس حيناً والتاريخ والسياسة حيناً آخر. وإن عاد الراهب إلى مراحل تاريخية مختلفة في بعض رواياته فهو لم يسعَ الى ان يكون روائياً تاريخياً. فهو روائي وليس مؤرخاً. وحاول عبر هذه الروايات ان يجيب عن سؤال جورج لوكاش الشهير: لماذا يعود الروائي الى التاريخ؟ وأجوبته كانت واضحة حتى وإن لم يعلنها صراحة أو يجهر بها. فالعودة إلى التاريخ ليست مجرد استعادة للتاريخ بل هي قراءة للواقع والحاضر على ضوء التجربة التاريخية. إنها في معنى ما عودة نقدية تهدف الى فضح الواقع والتاريخ معاً بغية التخطّي والتغيير. أما "وجوديّته" التي تبدّت في روايته الأولى "المهزومون" فسرعان ما استحالت نزعة عبثية ولكن غير مجانية. فهي قائمة على الوعي المزدوج: وعي الذات والتاريخ، وعي الفرد والجماعة. وإن اتُّهم في روايته الأولى بالميول "السارترية" فهو تأثر ايضاً برواد الرواية الغربية وفي طليعتهم هنري جيمس. وتبعاً لتخصصه في الأدب الانكليزي حصل على شهادة الدكتوراه فهو إنحاز إلى التقنيات السردية والروائية الحديثة التي رسّخها روائيو الغرب الكبار. لكنّ جذوره العربية جعلته يستوحي التراث الأدبي العربي والذاكرة العربية ولكن انطلاقاً من وعي أدبي جديد. ولعلّ روايته الأخيرة "رسمت خطاً في الرمال" هي خير دليل على تنكّبه الهموم العربية. فهي تخوض أجواء الحرب العراقية - الكويتية وتلقي ضوءاً ساطعاً على بعض زواياها. إذ مزج فيها بين الواقعي والتاريخي، وبين الحقيقي والخرافي ناسجاً الاحداث والشخصيات نسجاً روائياً باهراً ومحيطاً إياها بجوّ من العبث والسخرية. ومثلما شرّح الراهب بنية المجتمع الاستهلاكي ناقداً معطياته وأبعاده دان بشدّة الاجتياح العراقي للكويت مبرزاً طبيعة المقاومة التي قام بها ابناء البلد. هاني الراهب الروائي السوري الذي رحل أول من امس عن 61 عاماً بعد نزاع مرير مع المرض العضال سيترك فراغاً كبيراً في الحركة الروائية السورية والعربية وخصوصاً في المرحلة المقبلة التي ستشهد تحوّلات عميقة في السياسة والتاريخ.