زارت "الحياة"، صباح الخميس، منطقة الشريعة التي تعد النقطة الأعلى في السلسلة الجبلية لمنطقة المتيجة، والتي تعيش منذ 1995 على إيقاع "الجماعة الإسلامية المسلحة" "الجيا" التي إنتقلت اليها بعدما شددت قوات الأمن الخناق عليها في المدن والمناطقة الحضرية جنوب العاصمة الجزائرية. لم يكن قرار "أمير الجماعة المسلحة" جمال زيتوني وخليفته عنتر الزوابري تحويل هذه المنطقة وما جاورها إلى "مركز قيادة" عمليات الجماعة إختياراً عشوائياً. إذ تُعتبر هذه المنطقة الواقعة على علو أكثر من 1900 متر فوق سطح البحر، من المناطق الاستراتيجية الأساسية في المتيجة. وساعد عناصر "الجماعة" على إدراك هذه المكانة الإستراتيجية للمنطقة ان عدداً كبيراً من قادتها نشأوا في المناطق القريبة من الشريعة. فالأمير الحالي ل "الجماعة المسلحة" عنتر الزوابري نشأ في "حوش القرو" في بلدية بوفارك ولاية البليدة ويعرف جيداً الأهمية الكبيرة لهذه المنطقة التي عززت قوة "الجماعة" أكثر بنجاحها في إستقطاب معظم سجناء "مؤسسة إعادة التربية" الذين فروا سنة 1994 من سجن "لامبيز" في تازولت في ولاية باتنة 400 كلم شرق الجزائر. وعلى رغم ان المركز الفعلي لقيادة "الجيا" يقع حالياً في مرتفعات تالة عشة بين بلدية حمام ملوان و"سبغنية" بلدية وزرة 5 كلم شرق الشريعة، أو ما يعادل 20 كلم شرقاً عبر المسالك الجبلية، فإن رهان "الجماعة" ظل دوماً على الشريعة كحصن منيع يمنع توغل قوات الجيش إلى تالة عشة. وكانت "الجماعة المسلحة" في كثير من الأحيان تؤكد لسكان البليدة ان تتحكّم في الوضع الأمني من خلال إطلاقها عشرات القذائف التقليدية أو "الهبهاب"، على الولاية، مثلما حصل سنة 1998 عندما قُتل نحو 20 شخصاً في منطقة سيدي الكبير بوابل من هذه القذائف. الشريعة: "هنا تنتهي الحياة" الطريق إلى الشريعة التي كانت في السابق منطقة سياحية تجلب ألالاف من السياح الأجانب بجمال غاباتها وثلوجها الكثيفة، أصبحت تعني لمواطني البليدة "الطريق إلى الموت" أو "الطريق الى المجهول". وباتت السياحة في "المدينة الشبح"، منذ 1992، تُعتبر ضرباً من الجنون. الحياة تبدأ في التلاشي قبل قرابة 20 كلم من قمة جبل الشريعة. وكلما قصُرت هذه المسافة كلما قلّ عدد المنازل وخفّت حركة السير، خصوصاً قرب المنعرجات الوعرة التي كانت في كثير من الأحيان المكان المفضل لعناصر "الجماعة" لنصب مكامنهم القاتلة. مع كثرة "الحواجز المزيفة" التي تقيمها الجماعات المسلحة، قرر كثير من السكان، منذ 1995، الهجرة والتخلي عن أملاكهم في جبال الشريعة. وفضّل الكثير من السكان نسيان مناطقهم وأملاكهم إلى غاية مطلع 1997 حينما لجأ الجيش الجزائري إلى تشجيع السكان على العودة إلى منازلهم لقاء ضمان أمن الطريق المؤدية الى الشريعة يومين في الأسبوع هما السبت والجمعة. ولهذه الغاية، عمد الجيش إلى نشر أعداد كبير من الجنود في مختلف المنعرجات يتجاوز عددها 60 منعرجاً، قبل أن يعمد لاحقاً، في 1998، إلى فتح الطريق نحو الشريعة كل أيام الأسبوع ما عدا الخميس والجمعة. وفي 1999 لجأ الجيش الى تأمين سلامة الطريق كل أيام الأسبوع. لكن على رغم كل هذه الحماية الأمنية، لم تستطع قوات الجيش منع "الجماعة" من نشر حواجزها المزيفة مثلما حصل في 17 شباط فبراير 1997 عندما قُتل 37 شخصاً منهم جنود ومدنيون في المنطقة المسماة "كراش" التي تبعد كيلومترين فقط من الشريعة. بعد الخروج من البليدة بكليومترات قليلة فقط يقع، الى الجنوب، دوّار بن علي الذي أصبح تجمع سكنياً مهجوراً بالكامل منذ 1997، لا سيما بعد مذبحة "كراش" التي أكدت لمن بقي متردداً في مغادرة المنطقة أن الموت لن يعصم أحداً. وسط الحديث عن "المدينة الشبح" ومناظر الخراب التي شملت أعمدة الكهرباء والهاتف وحتى المصعد الهوائي تيليفيريك الذي شُل تماماً، يُخيّل لمن يسلك طريق الشريعة أنه يتجه الى مدينة مجهولة أو إلى مصير غامض. مع الإقتراب من قمة الجبل، تُصبح الحركة منعدمة ولا يُسمع إلا هدير محرك السيارة يصارع المنعرجات الوعرة التي تضررت كثيراً في ظل غياب عملية تعبيد الطريق وترميمها منذ سنوات. وسط أشجار الأرز والبلوط والفرنان والصنوبر البحري والحلبي وكذلك أشجار القسطل والجوز والكرز التي تزين الطريق إلى هذه المنطقة السياحية، يبدأ شعور الخوف يفرض إيقاعه مع مر الوقت. فهذه الأشجار البالغة الجمال شهدت وعايشت عشرات الحواجز المزيفة. إنها بعبارة بسيطة، كما قال أحد مرافقي في الزيارة، "اشجار جملية تخفي أبشع كتائب الموت وأخطرها في الجزائر". وعلى رغم أن الطريق آمنة نسبياً في ظل تواجد مكثف لقوات الجيش، إلا أنك لا تكاد تصادف سوى عسكري أو إثنين مع كل منعرج. أما بقية الجنود فيفضلون الإختفاء مرتقبين ظهور عناصر "الجماعة" من أدغال الغابات الوعرة المسالك. ويبدو، لمن يدقق النظر، ان العسكريين يحلتون مواقع للمراقبة مع كل هضبة أو مرتفع وفي كل بيت مهجور أو شاليهات سياحية مدمرة. الضباب الضباب أحد أبرز ملامح الشريعة وقد يكون من بين أبرز الأسباب التي شجعت عناصر "الجماعة المسلحة" على اللجوء إلى المنطقة. فمنذ الكيلومترات الأولى صعوداً نحو القمة، يغطي الضباب المنطقة إلى درجة ان رؤية مدينة البليدة وسهل المتيجة تكاد تكون مستحيلة على إرتفاع الف متر. البرد كان قارصاً في الشريعة صباح الخميس. وعلى رغم أن الجو في المدينة كان مشمساً، إلا أن الشريعة كانت كعادتها مظلمة وسط ضباب كثيف وبرودة كبيرة تصل في كثير من الأحيان، مع تساقط الثلوج، إلى أقل من اربع درجات تحت الصفر. كانت محلات المنطقة كلها، باستثناء مقهى وحيد، مغلقة. المنازل مغلقة. حركة السير مشلولة. لولا وجود بعض أعوان الحرس البلدي أو قوات الجيش، لا شيء يدل على وجود حياة في المدينة التي إعتادت في السابق أن تصنع أفراح الجزائريين، شتاء وصيفاً. المؤشرات كثيرة الى توقف الحياة في هذه المنطقة الجبلية منذ 1995. ومنها وجود صورة المرشح للإنتخابات الرئاسية التي جرت في تشرين الثاني نوفمبر 1995 السيد اليمين زروال معلّقة في أحد المواقع الرسمية، على رغم ان زوال صار، منذ ذلك الوقت، رئيساً للجمهورية قبل ان يتنحى ويحل محله الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في نيسان ابريل الماضي. الحياة في الشريعة ... توقفت عند زروال المرشح. مقهى "المدينة الشبح" صادفت "الحياة"، في المقهى الوحيد المفتوح في المدينة، السيد ناصف ستيل وهو شاب عمره 23 سنة يعمل وحده في المقهى ويتولى خدمة عدد محدود من الزبائن هم في الغالب أعوان الجيش والحرس البلدي برفقة بعض عمال الحظيرة الوطنية للشريعة. أقام ناصف برفقة والديه في بلدية الشريعة سنة 1979. ومنذ ذلك التاريخ لم يغادر البلدية إلا مع إشتداد ضغط الجماعات المسلحة. يقول: "كان الهدوء يعم الشريعة إلى غاية 1995 حين بدأت الحواجز المزيفة في الظهور إلى غاية السنة الماضية". وهو يتذكر جيداً وقائع حاجز مزيف نصبته جماعة الزوابري خلال عيد الفطر الماضي وذهب ضحيته عدد كبير من الجنود والمدنيين. ويذكر أن عدداً محدوداً من السكان عاد السنة الماضية الى المنطقة بعد تلقيهم مساعدات كبيرة وضمانات، كما تم فتح عدد من المحلات بصفة غير منتظمة تتولى رعاية العائلات العائدة. كذلك تم توفير سيارتين جماعيتين لنقل هذه العائلات إلى البليدة للتزود بالمؤون أو العمل هناك. أما السيد رفيق توفيق وهو مسؤول جمعية "افاق" الخيرية فقد إستعرض، في حديثه الى "الحياة"، الجو الذي تعيشه المنطقة. فقال: "إننا نشعر بالقنوط لكثرة الضباب الذي يخيفنا كثيرا ويستفز مشاعر قلقنا". ويوضح أن هدف جمعيته التي تأسست حديثاً هو "دعم عائلات ضحايا الإرهاب التي بلغ عددها بحسب إحصاءاتنا 96 فرداً موزعين على 26 عائلة مستها أعمال العنف خلال السنوات الماضية"، مشيراً إلى خطف "الجماعة" خمس نساء يُجهل مصيرهن حتى الساعة. أما السيد علي طواهرية، مدير الحظيرة الوطنية في الشريعة، فقد أكد، من جانبه، تضرر الحظيرة التي تمتد على مدى 27 هكتاراً موزعة على 12 بلدية وتنتشر في ثلاث ولايات هي البليدة والمدية وعين الدفلى، من جراء تدنى الوضع الأمني في المنطقة. وأشار في حديثه إلى "الحياة" أن المنطقة "تكتسي أهمية قصوى في فسيفساء السياحة والطبيعة الجزائرية". وقال ان من "ابرز المشاكل التي خلفها الإرهاب، عدم التدخل السريع لإطفاء الحرائق، وتوقف التشجير وعدم تهيئة الطرق ونقاط المياه وعدم صيانة البساتين ورعايتها وعدم تسيير خلايا النحل، فضلا عن هدم بعض المنازل الغابية التابعة للحظيرة ونقاط المراقبة، وكذلك حظيرة الحيوانات المهيأة لإستقبال الحيوانات والتي هدمت عن آخرها، وقطع بعض الأشجار الثمينة التي حوّلت إلى ملاجئ". خطوة لإسترجاع تالة عشة الجو الحزين والمثير للخوف يثير في الواحد شعوراً بالعزلة عما يجرى في المدينة، لأن يوميات "المدينة الشبح" أصبحت تقتصر على عمليات عسكرية بحتة. فالمنطقة أصبحت عبارة عن تجمع منظم لقوات الجيش المنتشرة في مختلف المواقع الحساسة. فنادي التزحلق على الثلج أصبح ثكنة عسكرية، وشاليهات "المنظر الجميل" في الشريعة أصبحت مركز تجمع لقوات الجيش التي إسترجعت المنطقة قبل فترة من يد "الجماعة"، لتقابل بذلك مركز قيادة الجماعة المسلحة في الجبل المقابل والذي على رغم قرب المسافة منه نظرياً خمسة كيلومترات، فإن الوصول إليه براً يتطلب السير عبر منعرجات وعرة لنحو 20 كلم شرقاً. ويُعد الوصول الى مرتفعات تالة عشة هدف قيادة الجيش، لكنه لن يكون هدفاً سهلاً في القريب المنظور، لا سيما بسبب ألاف الألغام التي زرعها الزوابري لتأمين مركز قيادته.