خادم الحرمين يتلقى رسالتين خطيتين من ملك الأردن ورئيس مصر    تفاصيل العرض الأول من النصر لضم برونو فيرنانديز    قدوم 935966 حاجا من خارج المملكة    أيمن يحي يخرج من حسابات مانشيني    هنري لم يضم مبابي في القائمة الأولية للمنتخب الأولمبي الفرنسي    محافظ الخرج يقف على جاهزية مركز خدمة ضيوف الرحمن بالمحافظة    الفضلي: المنتدى العربي للبيئة يؤسس منصة حوار لتوحيد الرؤى تجاه القضايا البيئية    أمير عسير يفتتح المقر الجديد لإدارة رعاية أسر الشهداء    جونيور أفضل لاعب في ال «UEFA»    «العقار»: تراخيص جديدة للبيع على الخارطة ب 6 مليارات ريال    أمير تبوك يقف على الجهود المبذولة لخدمة ضيوف الرحمن بمنفذ حالة عمار    مواطن يمكّن مقيماً من سجله بمعرض ستائر وديكورات    زراعة أكثر من 596 ألف شتلة من الزهور والشجيرات والأشجار خلال 4 أشهر الأولى    موسم جدة 2024″ يعود بفصل جديد ويكشف عن هويته    أمير الرياض يستقبل نائب وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية للعمل    بيئات واستعدادات هيأتها إدارات المدارس في الطائف    أمير تبوك يستقبل معالي مدير عام الجوازات    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للتصلب اللويحي المتعدد"    "الهلال" و"معهد إعداد القادة" يوقعان اتفاقية "مسار واعد"    كلاوديا تصبح أول سيدة تتولى رئاسة المكسيك    سفير المملكة لدى الأردن يودع قافلة حجاج بيت الله الحرام    سعود بن بندر يستقبل الرئيس التنفيذي لجمعية بناء ورئيس وأعضاء نادي القادسية    مفتي عام المملكة ونائبه للشؤون التنفيذية يستقبلان رئيس جمعية إحسان لحفظ النعمة بمنطقة جازان    السيسي يكلف مدبولي تشكيل حكومة جديدة من ذوي الكفاءات    بدء اكتتاب الأفراد في 154.5 مليون سهم بأرامكو    أسعار النفط تتراجع    طلائع حجاج إيطاليا تصل مكة المكرمة    نتنياهو يناقض بايدن: «الصفقة» لا تشمل وقف الحرب    فرصة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    بناءً على ما رفعه سمو ولي العهد خادم الحرمين يوجه بإطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد اليوم انطلاق بطولة العالم للبلياردو    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    دموع «رونالدو» و«الهلال» يشغلان صحف العالم    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    توبة حَجاج العجمي !    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرفة البحرية على كورنيش المنارة ببيروت... احتفال مشاة يومي وائتلاف جماعات تساوم على قواسم مشتركة مت . لا تقصد الشرفة جماعة من الناس إلا وجازت معارضتها بجماعة اخرى جددة 3 من 3
نشر في الحياة يوم 14 - 02 - 2000

لا يحسب المتنزهون، من فرط يقينهم بعموم الإباحة واختبارهم هذا العموم، أن الشرفة، أي جمهورها الأعظم، تتوقع من مشاتها وخابِّيها لباساً يليق بها ويناسبها، أو يُحتكم فيه إلى معيار لياقة ومناسبة. وارتداء كل أنواع الألبسة والأزياء، من لباس المدينة الى مرقعة الشحاذة والإستعطاء، قرينة على ما تقدّم. ولا يستتبع ارتياد الشرفة، لمرة واحدة أو في كل يوم، احتساب نظرة فاحصة على ما يلبسه مرتاده. فيسعه، إذا شاء، أن يخرج إليها من اجتماع عملٍ، أو من احتفال عائلي، كما يسعه أن يخالط ناسها وهو في لباس البحر والسباحة. ولا يحول بين بائع أكياس الفستق وبين التحول إلى متنزهٍ مثل سائر المتنزهين، إذا هو نفقت اكياسُه أو تخفف منها أو ترك بيعها، شيء.
فيجتمع، جنباً إلى جنب، المتهادي في البزة الغامقة اللون، بقطعها الثلاث وربطة العنق والياقة البيضاء المنشاة، وإلى ذراعه المرأة بثوبها الأسود والحريري الطويل وتسريحة الشعر المصفف طبقات، والماشي بسترة خَلِقة، بائرة اللون، على قميص متخرقة، وفوق بنطلون أغبر، أسطواني الساقين" ويجتمع مكتملُ الهندام الرياضي، من القبعة إلى الحذائين الرياضيين، الموحَّد الماركة البارزة إسماً وميسماً، و"الحاجة" بعباءتها الرمادية أو البنية أو البيضاء الفضفاضة، ومنديل الرأس اللصيق بالشعر والرقبة، والمُطيف بالوجه إلى الحاجبين والخدين وأسفل الذقن. ويلتقي في أثناء جزءٍ من الثانية، أو لساعةٍ تامة، المرأة المحجبة، أو المبرقعة، والمرأة الحاسرة القميص عن الكتفين، إلى بعض الصدر، والعارية الساقين إلى فوق الركبتين، اللابسة إما البنطلون القصير أو التنورة القصيرة. والحق أنه ينبغي ألا يعوَّل التعويل كله، في التصور ثم في الفهم، على المباينة بين الأحوال المتطرفة، أو الطرفية. فهذه إنما يلجأ الوصف إليها، ويتوسل بها إلى تجريد الحدود والأطراف. ولكن الكثرة تترجح بين الحدود والأطراف هذه، وتتوسطها.
ألوان الكثرة
وفي هذه الكثرة الموشاة والملونة جماعة تختلف، لباساً، عن جماعات الجمهور الأعظم، هي جماعة قاصدي المشي ومتعمديه. وأصحاب المشي، وفيهم صواحبه وهن ربما كثرة هؤلاء الأصحاب، يقصدون الشرفة للمشي، تداوياًً من زوائد الدم، أو تخفيفاً من سمنة وشحوم وترهل، أو تنشيطاً لوظائف عضوية يقبض العملُ بالمكاتب والسنُ إيظافها، أو ترويحاً عن النفس من حصر وحبس طويلين، أو طلباً لمخالطة الناس ووجوههم، أو مماشاةً ومجاراة لصحب ارتأوا المشي أو نُصحوا به، إلخ. وعلامة تقصد المشي الأولى هي احتذاء حذاء أي حذاءين رياضي، مطاط المداس ورقيق الظهر. ولا يستقيم مشي مستديم ومتصل، ولا ركض وخبب بالأحرى، إلا بحذاء رياضي.
وعلى هذا فأقدام أصحاب المشي وصواحبه على شرفة منارة بيروت البحرية، معرض لأنواع الأحذية الرياضية ومياسمها ماركاتها ورسومها وألوانها. وبعض المشاة لا يباشر مشيه إلا في حلة تامة، أولها الحذاء وآخرها غطاء الرأس وبينهما السروال والقميص أو السترة. والحلة التامة لا تتم إلا بألوان يناسب بعضها بعضاً، ويليق بعضها ببعض، وتترجح زوجين زوجين: الأبيض والكحلي، الكحلي والرمادي، الرمادي والأحمر، الأحمر والأصفر، إلى غيرها من الأزواج. وتشي الحلة التامة بعزم صاحبها على مزاولة المشي مزاولةً لا لين فيها، ولا عودة عنها. وقد يقتصر الأمر، أمر الوشاية، والعزم، على مرة واحدة لا تخطئ العين أمارات الإبتداء على صاحبها" وأول هذه الأمارات نظرات المبتدئ أو المبتدئة الملحة في تفحص نظرات المشاة الآخرين، والساعية في درء النظرات الفاحصة المفترضة والمخوفة. وقد تلهم العزيمة، أو العلة الصحية أو الجمالية، صاحبَ المشي إرادة مداومةٍ نافذة. فيَرى المداوم على الشرفة جماعة من الناس، قد تبلغ بضع عشرات، لا يحول بينها وبين المزاولة لا طقس ماطر ولا حرٌّ لاهب، ولا يؤخرها عن وقت رياضتها لا احتشاد معرقل ولا وحدة موحشة. والزي، أو الحلة، يجهر الرغبة ليس إلا، وهو من قبيل التمني. وهو يجهر، من وجه آخر، إقبال بعض الجمهور على المشي وفي ظنه أن المداومة على المشي هي نظير أيِّ مداومة على عمل عام يعرِّض صاحبه لأنظار الناس، فتسْبَره وتروزه، وعلى المرء أو المرأة أن يكون على قدر السَّبْر والرَّوز، وأن يليقَ مظهره بمكانته وبما ينسبه إلى نفسه منها. ومكافأة القدر والمكانة مسألة مقلقة، ويزيدها إقلاقاً نازع مجتمع الشرفة البحرية، وسننها وتقاليدها، إلى إغفال المكانات، وإلى خلطها خلطاً تضعف معه الشارات ومعايير الأحكام، على ما مرَّ من قبل. وعلى هذا، يؤدي ارتداء حلة مشي تامة، في غمار زركشة لا تحصى ألوانها، إلى تمييز من غير امتياز رتبة.
فيضم مجتمع الشرفة إلى جماعاته الكثيرة والمختلطة جماعةً صفتها هي زيها أو لباسها، وزعمها، من طريق زيها، بلوغ أقوى المناسبة بين ظاهر الزي وبين وظيفة واحدة مفترضة للشرفة. وهذا، أي الوظيفة الواحدة، هو ما لا يزعمه مجتمع الشرفة، المختلط والمزركش، لنفسه، وللشرفة تالياً. بل إن مجتمع الشرفة، على الضد من نسبة الوظيفة الواحدة، والمعيار الواحد، إلى الشرفة، استقرت سننه المضمرة، والبادية في استقباله الجماعات التي يستقبل وعلى نحو استقباله إياها ومزجه بينها، على المؤاخاة بين ضروب الإستعمال كلها، حتى تلك التي تقيدها الأماكن العامة مثل المقاهي والمطاعم وربما معظم دور السينما. فلا يُستبعد لباس السباحة الذي يلبسه الرجال والأولاد الذكور، دون لباس سباحة النساء، والحق يقال" ولكن الجزم بأن السبب في استبعاد المايوهات النسائية هو مجتمع الشرفة أو الجماعات التي يأتلف منها ائتلافاً ضمنياً ومعاييره الملزمة، وافتراض الإلزام في هذه المعايير، أمران لا يسوغهما الائتلاف الغالب على أحكام العمل الظاهرة ولا تسوغهما المؤاخاة بين ضروب استعمال الشرفة، على ما تقدم القول للتو.
فيبدو لباس زي تام موقوف على المشي، أو الركض الخبب، أمارةً على رغبة في صرف شرفة كورنيش المنارة إلى وجه واحد من الإستعمال. وقد تنزع هذه الرغبة إلى قصر الرصيف وارتياده على أصحاب الحلة الرياضية "الشرعية" وحدهم، وإلى إجلاء سواهم عنه. وهذا ما ربما تنم به وجوه بعض الراكضين المداومين والراكضان المداومات: فهؤلاء جميعاً، رجالاً ونساءً والنساء قبل الرجال، يركضون ركضاً نَهماً ومبيِّتاً ضغينة حادة - على الشحوم التي تثقل الجسم، أو على مآكل تمتنع من الهضم اليسير، أو على غددٍ يؤخرها بطء عملها عن لفظ الزوائد العالقة بدواخل الشرايين، وعلى الدراجين والمتزلجين والمتنزهين والمشاة المتهادين على الرصيف الطويل تهاديهم على مسرح لا حاكم فيه غير الهوى والغواية.
ولا تقصد الشرفة جماعة من الناس إلا وجازت معارضتها بجماعة أخرى، مقصداً وغايةً ونحواً من أنحاء الإجتماع والإلتحام. فيقصدها من يجتازها رواحاً وإياباً، مشياً أو ركضاً، فرداً واحداً أو اثنين أو أكثر - والثلاثة يتعذر مشيهم المنضبط والمنتظم - ويقصر قصده إياها، وتردده إليها، على اجتيازها. ومن هذا شأنهم تأتلف جماعتهم من أفرادهم وآحادهم المتفرقين. وهم لا يخرجون عن تفرقهم منه وهم منصرفون إلى مشيهم أو ركضهم. ولا ينشئ المشي، أو الركض، ولا التردد، رابطة تربط بينهم، أو بينهم وبين الجماعات الأخرى. فهم يبينون منها، ويختلفون عنها، بلزومهم انفرادهم، وإقامتهم على "عملهم". ولعل وصفهم بالجماعة لا يسوغه إلا اتفاقهم على استعمال الشرفة على النحو الذي يستعملونها عليه. ولا يصدر الإتفاق هذا عن تواضع. فكل واحد سلك إلى استعماله طريقاً لا يشاركه فيها أحد غيره. وصدر كل واحد عن بواعث ودواعٍ، وعن احتياجات تخصه، ولا يتقاسمها مع آخرين إلا من طريق المصادفة والإتفاق الخارجيين. والمصادفة والإتفاق هذان إنما ترعاهما أحوال بيروت العامة، وبعثها ناساً على طلب الترويح أو الرياضة بهذا الموضع المتطرف منها، وعلى أوجه الإختلاط واليسر وضعف المراتب.
ويقصد الشرفة من وجه آخر، مخالف للأول، من يحلونها عائلات وأسراً، من جيلين أو ثلاثة وربما أربعة. وهؤلاء لا تعدو رحلتهم النزول من السيارة، الراكنة بإزاء طرف الرصيف وعلى مقربة من مقعد حجري، إذا توفر مثل هذا المقعد، وإخراج كراسيهم المطوية وبسطها والتحلق حول النراجيل والطعام والكلام" وبعض المجلس لا يترك السيارة ولا يغادرها، فيجلس على طرف مقعدها، ويستمع الى مذياعها أو مسجلتها، ويبقي صندوق الأمتعة الخلفي مرفوعاً، فيتناول منه ما يحتاج إليه، ويرد إليه ما صار في غنى عنه. فلا يختلف شأن الرصيف، والحال هذه، عن "برية" داجنة من "البريات" التي ينزلها أهالي المدن على ضفاف الطرق التي تصل هذه المدن ب"أريافها". وقد يقيل المتنزهون من مجلسهم بعد الطعام أو النرجيلة أو الشاي والقهوة، فيخطو بعضهم خطوات قليلة صوب البحر وحاجزه، ويتمطون وهم ينظرون إلى الماء أو إلى صياد السمك القريب، ثم يعودون إلى مجلسهم وأهلهم وفي يد الواحد منهم يد ابنه ناحية على حدة، أو بنته" وقد ينتحي إثنان من المجلس أو ثلاثة فيمشون خطوات شمالاً أو جنوباً ويرجعون من حيث أتوا. فعلى الضد من الجماعة الأولى، لا تنضبط شرفة الجماعة الثانية على رسم ولا على وجهة، أو جهات. فالشرفة إنما هي، على استعمال الجماعة الثانية، موضع أو "مَطَلٌّ" وفسحة" ومركز الموضع من نفسه، ولا يصل بينه وبين المواضع القريبة إلا الجوار. ولا يترتب على الجوار رسم استعمال مشترك غير الحدود التي تفصل المواضع الواحد عن الآخر، وتجمع وأهله من غيرهم أي من جيرانهم الأقربين والأبعدين.
والجماعتان المتطرفتان هاتان لا تختلف الواحدة منهما عن الأخرى بالحركة والثبات، وبالإلمام بالرصيف كله والإقتصار على موضع منه، وحسب، فهما تختلفان في أمور أخرى تسهم، على هذا القدر أو ذاك، في تعريف "كورنيش المنارة". ومن هذه الأمور، على ما مر، الإنفراد والجمع، والإنصراف من غير تبادل كلام إلى فعل المشي أو الركض وإدارة المجلس على الكلام ومبانيه حلقة الجلوس وجهاً إلى وجه، المؤاكلة والشراب والتدخين، الإستماع إلى الغناء. وبين الجماعتين جماعات متوسطة تمزج، على مقادير متفاوتة ومتباينة، الحركة والثبات، والإلمامَ بأجزاء من الرصيف وانتخابَ مواضع منه، وتمزج الإنفرادَ والجمع، والصمت والمحادثة. فبين الآحاد والأفراد، وهؤلاء يغلِّبون الإرتياض على ارتيادهم الشرفة البحرية، وبين الرَّبع العائلي المرتبع مجتمعاً جهة منها ينزلها ولا يبرحها، تقصد الشرفة للأغراض وغايات تقتطع منها أجزاء تفي باحتياحات أصحابها، وتنشئ بين الجماعات، المتوسطة، علائق دون أخرى.
فقد ييمم إلى الرصيف المتوحدون الناشدون العزلة في وسط الجموع الغُفْل من معرفة، وأزواجُ العشاق والأصحاب، زوجين زوجين، اللاجئون من رقابة أحياء الداخل وأهاليها إلى أهلهم إلى فناء أقل تزمتاً وضيقاً، وشللُ الصحب والأصدقاء المكملون صحبةً أو المتصدون للمشاة "النظاميين" بالنظر والمراقبة واللغط" وييمم الخارجون لتوهم من طعام ثقيل أو اجتماع مجهد، والمتواعدون موعداً على حدةٍ من أعين وآذان لا يرغبون في وقعها عليهم أو سمعها ما يسرون، وأجزاءُ الأسر "الصغيرة" المحتفلون بخطوات الولد الأولى أو الساعون في التسرية عن بعض أولادهم وعن أنفسهم في يوم تعطيل، أو المعرِّفون قريباً زائراً على هذا المعلم من معالم بيروت. وهؤلاء يقلِّبون مواضع الشرفة على أهوائهم. فيبتدئونها من حيث يرتأون، أو من حيث تيسر لهم الأمر ووقعوا على موقف سيارة شاغر فانتهزوا شغوره، أو أنزلتهم سيارة نقل أعلن سائقها عزمه على ترك هذا الوجه من السير إلى وجه آخر.
الطرف والممر
وتضافرت وظيفة كورنيش المنارة، مع موقعه، على إبعاده من اليد الأهلية ومعاييرها. فالطريق المحاذية البحر ممر ووَصْلة. فهي تنتهي إليها الطرق الآتية من جهة المرفأ، ومن ورائه شرق بيروت والطريق الساحلية، وتلك المنحدرة من بعض أحياء غرب بيروت القديمة والمتجددة مثل زقاق البلاط والقنطاري والصنائع والبطريركية وكركول الدروز ورمل الظريف. وكذلك تنتهي إليها الطرق الداخلية المنحدرة من الجامعة الأميركية وحرمها، ومن الحمراء، مما يلي شارع بلس جنوباً، والروشة، جنوباً غرباً. وتصبّ في وصلة كورنيش المنارة الطرق الآتية من قلب غرب بيروت، ومن الرملة البيضاء والجناح والأوزاعي. وبين هذه وتلك الضواحي الجنوبية ومواصلاتها من بيروت وإليها. فيسع القادمين، في سياراتهم، من أي محل من هذه المحال، أو جهة من هذه الجهات، والقاصدين جهة بعيدة من كورنيش المنارة أو قريبة، التعريج على كورنيش المنارة، والمرور به ترويحاً وفرجة وفضولاً، قبل المضي على الجهة المقصودة. واجتماع تطرف الموقع واتخاذ الطريق ممراً لا ريب عامل في خلط مصادر المشاة والمتنزهين ومزجهم، وفي الحؤول دون بسط الجماعات الأهلية معاييرها على مجتمع الشرفة، وضبط مسلك أهلها على نواهٍ وحدودٍ ومراتب تأخذ بها الجماعات من هم منها، ويقيمون في "حماها"، ويتولونها طائعين ومكرهين معاً بعض الطاعة وبعض الكراهة. ولعل اجتماع الأمرين غداة عام 1990، دعا أهل بيروت، ولا سيما الشباب منهم والفتيان، إلى انتخاب الشرفة البحرية منتزهاً وممشى، وتقديمها على مواضع أخرى جائزة. ومن المواضع الجائزة رصيف طريقين متصلين يحوطان حرج بيروت، واحد يصل مستديرة الطيُّونة، وهي مفترق الطريق إلى الشياح وعين الرمانة وطريق سامي الصلح وبدارو، بمستديرة شاتيلا، القريبة من الغبيري، والآخر يصل مستديرة شاتيلا نفسها بمدرسة المقاصد، المطلة على رأس الخط أو محلة البربير.
ويتردد إلى هذا الرصيف بعض المشاة والخابين، وهم كثروا في العامين 1997 و1998 بعض الشيء، ثم تناقص عددهم. وإلى ضيق الرصيف، قياساً على رصيف الشرفة البحرية، وقصره، لا ريب في أن من أسباب انحسار التردد إليه غلبة وظيفة الانتقال من بيروت إلى الغبيري والشياح وحارة حريك وبرج البراجنة، عليه، من وجه، واقتصار الرصيف على الممشى من غير حواشٍ كتلك التي تحف ممشى الشرفة، من وجه ثانٍ، وقرب الرصيف من أحياء السكن التي يخرج منها المشاة إلى رياضتهم، من وجه ثالث. فلا يخلط ارتياد هذا الرصيف مرتاديه على نحو يخرجهم من إلفتهم بعضهم ببعض، ولا يتيح لهم تعرفَ ناسٍ قادمين من جماعات ومواضع لا يعرفونها. وعلى هذا اقتصر المرتادون على المشاة، وعلى طالبي التريض، وافتقروا إلى روافد الشرفة البحرية وخليطها ومجتمعها الكثير الجماعات والعدد. فنضب عديد الذين كانوا يترددون إلى رصيفي حرج الصنوبر أو ما كان حرج صنوبر قبل حرقه، وقلوا. وربما أشعرتهم قلتهم، وهم في "بلادهم" وبين أهلهم ودورهم، وبالاستيخاش، فنقصوا.
والمقارنة هذه، على عجلتها، تُظهر فعل الكثرة والخلط والتجدد، والإغفال الناجم عنها، في ارتياد رصيف كورنيش المنارة، والحمل عليه. فالكثرة المختلطة والمتجددة والغفل من التعيين والمعرفة، أو التعرف، إنما تقصد، حين تقصد كورنيش المنارة، مكاناً متطرفاً من المدينة، يحوطه سكن متفرق وبحر مرسل، بعيداً من الأهل ومن ضوابط سننهم وعاداتهم، وبمنأى من أحكام المراتب الاجتماعية ولوازمها وقيودها. ولعل جمع الشرفة، ورصيفها العريض والطويل، بين سمات موضعها، ممراً ووصلة وظاهراً أو ضاحية، وبين وقوعها على سفح هضبة رأس بيروت، غير بعيد من المدينة الجامعية الأميركية والحمرا والفنادق، لعل هذا الجمع هو من دواعي الإقبال على الشرفة ورصيفها. ووقت الإقبال هو غداة وضع القتال أوزاره وأفول الحمرا سوقاً تجارية فريدة وواجهة إجتماعية وثقافية على حدة من لبنان وبيروت، ومن ورائهما المدن العربية المشرقية. فالجماعات التي ترتاد الشرفة، رصيفاً وطريقاً سيارة ومسبحاً، وتجتمع جماعات تدين بقوامها ولحمتها للشرفة وليس لمصادرها السابقة والثابتة - هذه الجماعات يعود ترددها واجتماعها إلى مطلع العقد العاشر. وهي لم تستقر على هيئاتها إلا بعد إجلاء "مقاهي الإكسبرس"، في ربيع 1992 وصيفه، عن الرصيف. فكان هذا الإجلاء، إلى مراقبة البائعين الجوالين، إيذاناً بإباحة الرصيف للفتيان والفتيات، وللدراجين والمتزلجين - وهم فتيان وفتيات - " وأزال الإجلاء محطات الجلوس والبيات الثابتة، وهي مَراقب على المارين والمارات، وقيد قد يكون ثقيلاً على رواحهم ومجيئهم.
فغدا الإنتقال من الحمرا، والأصح القول: من حكاياتها وروايتها، إلى كورنيش المنارة ورصيفه، بمتناول الناس كلهم، أي عامتهم، على المعنى اللغوي والمعنى السياسي لكلمة عامة. وإذا استعارت الشرفة من الحمرا ارتفاع المراقبة أو ضعفها، واستعارت جوار الوافدين من غير معيار استبعاد واضح، فهي تخففت طبعاً وعفو الموضع من كل الجهاز الثابت الذي كان حلة الحمرا، من دور سينما ومقاهٍ ومطاعم ومحال ألبسة وأزياء. فالشرفة، من هذا الوجه، خلاء وبادية. وما زالت المقاهي والمطاعم والمقاصف قبالة الرصيف أو على الجهة البرية من الجادة، غداة نحو العقد على ذيوع صيت الشرفة، قليلة. وكثرتها الغالبة تقوم في مطالع الشرفة الشمالية، مما يلي الفنادق الكبيرة وبحذاء حي عين المريسة. وقد يكون هذا الحال قرينة على قوة الخلاء من المرتب وشاراتها ومن أحكام عمل الجماعات و"خططها" على الجمع والوصل والتأليف. والجمع والوصل والتأليف هذه تستبقي من القواسم المشتركة بين الجماعات اللبنانية البيروتية أعمها، وأقلها استتباعاً للحرج، وأقدرها على استدراج حواشي الجماعات من غير استثارة متونها، ومن غير الحجر على الأفراد ونوازع فرديتهم الجسمانية.
وعلى هذا، يسع الملاحظ المراقب شهود تظاهرات ناشئة عن خليط أهل الشرفة، وعن موقع الشرفة ووظيفتها، إذا جازت صيغة الفرد. ولكن الخليط لا "يعمل"، ولا ينتج النتائجَ إلا جراء مساومة دائبة بين أهل الشرفة. فلا يغالي المعلقون المتكئون في تعليقاتهم وتعقبهم ولا يتركون البذاءة الجارحة على غاربها، ولا يغالي المتزمتون ولا ينصبون أنفسهم حسباء على اللباس، ويكظم من يباغتهم الدراجون ضيقهم، ويصم من تعرّضهم قيافتهم ويعرضهم سمتُهم للملاحظة، آذانهم بعض الصمم... ولا ريب في إخفاق المساومة في أحوال لا ترصدها العين. فيؤدي الإخفاق إلى ترك الذين لا يريدون المساومة ارتياد الرصيف، والنكوص عنه، أو يؤدي إلى التردد إليه جماعةً،وكانوا يترددون أفراداً. فالمساومة تمتحن القدرة على ابتكار الإجابات، على نحو ما تمتحن قوة احتمال الجماعات والأفراد تظاهرات الإختلاف وعباراته. وإلى اليوم لم يتصدع مجتمع الشرفة، ولا تخرق ائتلافه، بينما تبدو الوطأة التي تمتحن مجتمع الجماعات اللبنانية ثقيلة ومرهقة على قدر حمل نحو ثمانمائة ألف لبناني على السفر، منذ 1993، وعلى جوازاتهم سمات هجرة طويلة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.