من زمان وطيف الراهبة هندية يلاحق المسرحيين اللبنانيين ناهيك عن بعض المؤلفين الروائيين لما في شخصيتها الملتبسة من خصوصيات محلية ولكنها أيضاً ذات أبعاد كونية شاملة. بل يمكن القول أن آمال حنة العجيّمي التي ولدت في حلب عام 1720 وترهبنت وهي في الثانية عشرة، تحوّلت مع مرور الوقت الى واحدة من الأساطير المفتوحة على التأويل والتضخيم، مما يوفّر للمخيلة المبدعة حقلاً خصباً يحتوي كل صدامات المكرَّس والمقدّس مع المنطق العقلاني، اضافة الى الاحتمالات الميتافيزيقية والوقائع الاجتماعية والتاريخية لفترة عصيبة من تاريخ لبنان. وأخيراً حقق المخرج المخضرم جلال خوري عملاً مسرحياً مستوحى من قصة تلك الراهبة التي اتهمت بالزندقة والهرطقة. وأطلق خوري على عمله صفة مبتكرة فأسماه "مشهدية" أي أنه عرض يستعمل عناصر متنوعة من فنون المشهد من دون القيود والتوقعات المعقودة بالعمل المسرحي العادي. والواقع أن جلال خوري استنسب تلك التسمية الحاذقة لئلا يقول "والله ما معي فلوس كي أنتج مسرحية متكاملة وهذه "الشبه" مسرحية اسمها "مشهدية" لمن يهمه الأمر". فليكن! لكن المشكلة أن ولادة "مشهدية" جلال خوري باغتت النقد والنقاد ووضعتنا في حيرة من أمرنا، إذ كيف ننتقل مسرحية ليست مسرحية علماً بأنها تلجأ الى الحوار والتمثيل والديكور والإضاءة مما هو مسرحي للغاية، اضافة الى الإنشاد الموظّف لخدمة السياق المسرحي... لذا لا يسعنا، حتى اشعار آخر، إلا اللجوء الى المقياس النقدي المسرحي في تناول "هندية" جلال خوري قدرنا في ذلك كقدر الجمهور الذي تلقاها كمسرحية أيضاً. "تقع أحداث هذه المشهدية" يقول المخرج "في أيامنا هذه بالقرب من دير سيدة الحقلة الواقع على مشارف قرية دلبتا الكسروانية". والأحداث المذكورة معظمها متخيّل وموحى به فلا حدث على المسرح سوى أن رجلاً أيمن غنام جاء يبحث عن قصة الراهبة هندية في محيط الدير. وقبل بلوغه مقصده الأخير التقى امرأة قروية فاديا صعيبي فأخبرته عبر حوار استنطاقي مطوّل حكاية الاضطهاد والأسر والتعذيب التي عاشتها هندية منذ مئتي عام. وفيما تنسحب المرأة حاملة سلّتها المملوءة بقشور الصفصاف الشافية، يدخل محبوب موسى مرعب وجناديوس منير غاوي ليكشفا من خلال حوار مطوّل آخر أن الرجل إنما رأى شبحاً، وليناقشا حكاية هندية من وجهتي النظر المتناقضتين: محبوب المؤمن بقدسية هندية ومجمل حكايتها، وجناديوس العقلاني الذي لا يؤمن إلا بالملموس والمحسوس من الأمور. المحيّر في أمر الرجلين أن جلال خوري رسمهما ثملين يحملان "البطحة" ويتسكعان، بل دخلا المسرح على شيء من التعتعة، ثم ما لبثا أن أصبحا فهلويين يتناظران بلا هوادة في شؤون لاهوتية وفلسفية كأنهما رواقيّان أكثر صحواً من سقراط نفسه. عملياً حجة الشراب لم تكن مقنعة أو ضرورية بقدر ما كانت تزيينية سهلة غير ممتنعة وجاءت ممطوطة من دون أن تضيف شيئاً يذكر الى "الأحداث" أو المعلومات التي وصلتنا عبر الحوار الأول بين الرجل الزائر والمرأة القروية. والواقع أنه على رغم الجهد التمثيلي الذي أبداه كل من منير غاوي وموسى مرعب في هذا "السكتش" جاءت نتيجة مرورهما بلا اضافة تذكر، ان لم نقل أنهما كشفا الضعف المركزي في المشهدية كلها، وهو الافتقار العضوي لإدارة الممثلين. أخبرنا جلال خوري "عن" هندية ولم يمشهد لنا حكايتها فبقيت شخصيتها في أحضان الغيب، ولم ينفع "ظهور" طيفها في المشهد الأخير متلبسة رداء الرهبنة ومدعومة بصوت جاهدة وهبه لتحقيق حضور حسّي يمكن أن يتفاعل مع الجمهور ويفعل فيه. وهكذا إذا ب"المشهدية" تتحوّل تعليقاً حكواتياً وانشادياً مرصعاً ببعض التمثيل من دون أن تنقل المتلقي الى قلب الموضوع المطروق، فكأنها علم وخبر حول مشروع مسرحي مؤجل. في النهاية ووجهنا بعناصر أولية ذات امكانات عالية، إلا أنها لم تكن ذائبة بما فيه الكفاية لتتحوّل الى عمل فني ثاقب وساطع كما توخاها جلال خوري. فجاهدة وهبه التي رافقت العرض بإنشادها الرائع تستحق ما وصفها به فريد سلمان "هذه العطية النادرة، مسؤولية قومية يتوجب على هذا الوطن المذوّب أن يرعى مصيرها، ليمكنها من تسلّق القمة التاريخية". وفاديا صعيبي امكانية ممتازة ذات حضور دافىء وشفيف. أما أيمن غانم فما زال بحاجة الى صقل وتعميق صوتاً وحركة، مع أنه عجينة يمكن أن تأتي بالمشتهى إذا ما عركت جيداً، وإذا ما أقلع المخرجون بيرج فازليان قبل جلال خوري عن اسناد أدوار اليه ينوء بها وحجتهم أن له قدرة طيبة على حفظ الحوارات والمونولوغات الطويلة. منذ أواخر الستينات برز جلال خوري حاملاً لواء المسرح السياسي، واستطاع أن يترك بصمة مميزة وواضحة من خلال نصّه القشيب المفخخ بألغام مضحكة - مبكية واخراجه البسيط المشدود، وكان له الفضل في ولادة احدى أهمّ الشخصيات الكوميدية في المسرح اللبناني: نبيه أبو الحسن من خلال عمله "حجا في القرى الأمامية" عام 1971 ثم "الرفيق سجعان" عام 1974 ومما لا شك فيه أن الظروف الانتاجية المخزية التي يمر بها المسرح اللبناني اليوم تؤثر سلباً على نوعية الأعمال المتداولة والمصنوعة بما تيسّر، وإلا كانت "هندية" تمسرحت مثل العالم والناس، وكان جلال خوري وفّر علينا مشقة التنقيب عن مقاييس نقدية جديدة لابتكاره "المشهدي" العجيب.