تحتفل فرنسا هذه السنة بمئوية ولادة الشاعر جاك بريفير 1900 - 1977 وهو عاصر جان بول سارتر 1905 - 1980 وإنما عبر القرن الماضي في دروب مختلفة، فاختار التسكّع والتنزّه بدلا من المدرسة والجامعة ودفع الهمّ الشعبي في عصره الى الغناء والفرح. في هذه المناسبة، صدرت كتب عدة عنه، أبرزها السيرة التي وضعها ايف كوريير دار غاليمار وكتاب ميشال راشلين، أحد أصدقاء جاك بريفير، وفيه يحيّي ذكرى الشاعر منشورات اولبيا وكتاب "أولاد الجنّة" منشورات مونزا وهو يأخذ شكل ألبوم ويحتوي على صور فوتوغرافية ورسوم وملصقات والتصاميم وكل ما شكّل فيلم مارسيل كارنيه "أولاد الجنّة" إضافة الى النصّ الكامل والأصلي الذي كتبه بريفير كسيناريو للفيلم. ويحتوي الكتاب على تحليل وضعه برنار شارديير، الاختصاصي بعلاقة بريفير بالسينما، ويعيد تركيب القصّة المضطرّبة لولادة هذا النصّ. وتنشر الدار نفسها كتاباً جميلاً آخر، "مفاتن لندن"، الذي يُظهر عملاً فنيّاً طريفاً ومبتكراً اذ يجمع كل الإنطباعات السياحية والإنسياقات الاستيهامية للمصوّر الفوتوغرافي ايزيس وللشاعر بريفير. فأشعار بريفير تعلّق على صور ايزيس التي تحوّلها الملصّقات التجريدية المُضافة اليها الى لوحات هاذية وساحرة. وسيُحتفل رسميا بذكرى ولادة بريفير في آذار مارس المقبل خلال التظاهرة الشعرية الكبرى التي تنظمها وزارة الثقافة الفرنسية سنوياً تحت عنوان "ربيع الشعراء" في حين يقدّم حالياً "مسرح موليير" في باريس قراءات شعرية لبريفير تؤديها الممثلتان بريجيت فوسيه وكاترين ارديتي. وتخصّص فسحة "او شومان دو موبارناس" معرضا لملصقات الشاعر ولوثائق نادرة وطبعات أصلية من كتبه. وتبقى أعمال بريفير منجما لتمرّد دائم وعلاجا لشباب أبدي، وتعتبر من أكثر الأعمال مبيعا لشاعر في القرن العشرين، بشكل خاص ديوان "كلمات" الذي صدر للمرّة الأولى عام 1946 والذي بلغ مبيعه، لاحقاً، في طبعة الجيب "فوليو" الواسعة الإنتشار أكثر من مليوني نسخة. وكان تجميع نصوص هذا الديوان 79 نصّاً مغامرة كبرى من أجل البحث عن الأشعار، الأغاني، الأقوال المأثورة، الموزّعة في أدراج الأصدقاء، وفي صفحات مجلات سريّة. نصوص كان يكتبها بريفير على عجل مند البداية وكانت مبعثرة حسب اللقاءات والأحداث. ذلك أن بريفير، قبل ان يكون كاتباً، كان راوياً ومحدّثاً ماهراً، بهلوان التعبير الشفهي، يمارس الخربشات الجدارية واللغوية. وكتاب "كلمات" الذي لمع عام 1946 يشكّل النموذج الأوّل لأقوال وأمثال وكلمات كان يتلوها الشاعر قبل عشرين سنة. واستمرّت كتبه اللاحقة تغرف أفضل نصوصها من هذا الكنز الأوّل. مرِحاً، طليقاً، حالماً وحميماً، كان جاك بريفير، وكان مخلص ايضاً لكلّ مفاهيم الصداقة، ولكنه كان يحافظ أيضاً، كونه فوضوياً حقيقياً، على رفض المجموعات، التراتبية والنظامية: قريب في صداقاته من الشيوعيين إلا أنه بقي بعيدا عن الحزب الشيوعي، صديق السورياليين، إلا أنه سعى الى إنزال اندريه بروتون، "بابا" السوريالية، من مقامه، ملتزم كليّا ضدّ حكم فيشي وضدّ النازية والفاشية، إلا أنه لم ينتمِ في أي وقت من الأوقات الى حركات المقاومة... هكذا كان بريفير يتبع مساره مستقّلا وصديقاً في آن. وجاك بريفير الذي كان يمضي أوقاتا طويلة متمدّدا على كرسي في سان بول دو فانس في جنوبفرنسا والسيجارة لا تغادر فمه أبدا، كان يريد أن يقوّم أقواس القزح وأن يخط صفحات من سعادة ممكنة، وكان يقول: "ما يسقط تحت المعنى يقفز في مكان آخر". وحملته سخريّته الأسطورية و"فوضويته الحالمة واللامنطقية" كما قالت سيمون دو بوفوار، إضافة الى محبته الطبقة الشعبية الباريسية، الى وضع أعمال للسينما والى خلق أفلام بارزة مع المخرج مارسيل كارنيه. وكان جاك بريفير، حتى مطلع الخمسينات، يهتّم أوّلا بالسينما. ولم يتم نشر "كلمات" إلا بفضل المعجبين بشعره البسيط ظاهراً فمن بينهم المحلّل النفسي جاك لاكان والشاعر هنري ميشو. أما بريفير، فلم يكن ينوي نشر هذه الأشعار أو "ما يسمّونه أشعارا" كما كان يقول. ولكنه، بعد النجاح اللا متوقّع الذي عرفه كتابه "كلمات"، راح بريفير يكتب الشعر فعلاً، وراح يكتب الأغاني التي جذبت كباراً لمغنين أمثال جولييت غريكو وماريان اوزوولد ونات كيغ كول وايف مونتان الذي جعل من أغنية "الأوراق الميتة" "أسطوانة ذهبية" انتشرت في العالم أجمع وباعت الملايين. وأما جاك بريفير، فكان يردّد : "أكتب كي أُسعد البعض وأُزعج الكثيرين".