ما كان بإمكان الجنرال باراك ان يرتكب هذه الدموية تجاه الفلسطينيين وهذه الصفاقة تجاه العرب، لو كان هناك ثمن سيدفعه، وهو يزايد في دمويته وصفاقته على من سبقه من مجرمي الحرب في اسرائيل. وبما أن القوى الوحيدة القادرة على معاقبته هي القوى التي تمول آلة الحرب الاسرائيلية واقتصادها، وتوفر الغطاء السياسي لجرائمها، يستبعد أن تردع باراك أو غيره حملات الادانة والانتقادات الاقليمية والدولية. يستطيع رئيس وزراء اسرائيل أن يتبجح اليوم بأنه "ملك السلام وملك الحرب"، بوصفه قدم للفلسطينيين في كامب ديفيد "تنازلات" لم يجرؤ عليها من سبقوه في الحكومة، قبل أن يرتكب بحقهم المذابح. ويستطيع بطل الحرب على الأطفال، وبطل "ام المهازل" التفاوضية ان يذهب الى انتخابات مبكرة، يضمن فيها ان احداً من "الحمائم" أو "الصقور" المنافسين لن يتمكن من المزايدة عليه في شيء. ولأنه نجح في الغاء الفارق بينه وبين اشد رفاقه دموية، فإنه استطاع ايضاً ان يعلن، عشية انعقاد القمة العربية، وبكل وقاحة، تجميد عملية السلام، بعدما اصدر أوامر بقتل مزيد من الأطفال... استبق باراك قرارات القمة بإعلانه تجميد عملية السلام، اي عملياً وقف الاتصالات مع الأطراف العربية والتطبيع معها. وكأنه يقول إنه لم يعد هناك على الصعيد السياسي، ما يمكن العرب تهديده به، بخاصة بعدما تبين ان غالبية الاسرائيليين تؤيد سياساته القمعية، ولم تعد ترغب في التطبيع مع العرب! ولعل الموقف الاسرائيلي الذي يربط التطبيع بالحصول على تنازلات سياسية من العرب، لم يكن بهذا الوضوح في اي وقت مضى. فما فائدة التطبيع بالنسبة الى اسرائيل إن كان اصحابه "المعتدلون" سيتبنون الموقف الفلسطيني؟ ليس اكتشافاً ان الاوراق العربية التي كان يمكن استخدامها للضغط على تل ابيب ليست مجدية اصلاً، أو تم سحبها اخيراً بمبادرة اسرائيلية. فالتعاون الثنائي والاقليمي العربي مع اسرائيل ظل دائماً في حدود ضيقة لا ينفع معها تجميده او التهديد بوقفه. اما الأطراف الدولية القادرة على الضغط على الدولة العبرية، فواضح انها ليست في مزاج فرض عقوبات من اي نوع إذا لم تكن مضطرة الى ذلك. في المقابل، فإن العلاقات العربية مع الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهي اكثر اهمية بكثير من العلاقات العربية مع اسرائيل، لم توظف بفاعلية في خدمة القضية الفلسطينية، التي أخذت أخيراً ابعاداً اقليمية خطيرة. بل ان العكس هو الحاصل: فالدول المنتجة للنفط ما فتئت تعلن نيتها الاستمرار في زيادة انتاجها لخفض الأسعار العالمية. ومن دون تجاهل تعقيدات العلاقة العربية - الأوروبية - الأميركية، وبعيداً عن التبسيط والسطحية في الحكم على هامش المناورة الذي تتمتع به الدول العربية المنتجة للنفط في علاقتها مع الدول المستهلكة "الصديقة"، إلا ان المنطق يقتضي ان تدفع هذه الدول ثمناً سياسياً مقابل انقاذها من الأزمات والاختناقات التي يمكن ان يتسبب بها ارتفاع سعر النفط. فالأزمة الفلسطينية تشكل ايضاً ضغوطاً مباشرة وغير مباشرة على الدول العربية، والأولى بالدول "المتحضرة"، ان تفرض على اسرائيل الحد الأقصى أو الأدنى الممكن من العقوبات، اقله حفاظاً على مصالحها الحيوية في المنطقة، إن لم يكن من اجل اقناع البشر بأن اسرائيل لن تكون الدولة الوحيدة في العالم التي سيستمر السماح لها بمواصلة انتهاك الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان... من دون حساب.