تدريبات فنية وتكتيكية تجهز الأهلي للقاء أبها    "الشهري" يتوّج العلا ببطولة أندية المملكة لدرجة الشباب "الدرجة الثانية"    معاً لمستقبل عظيم !    نريدها قمة القرارات لا التوصيات    مخاطر الألعاب الإلكترونية على الأمن المجتمعي    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تخرّج طلاب وطالبات البرامج الصحية بتجمع المدينة المنورة الصحي    أمير تبوك: ليالي الحصاد والتخرج من أسعد الليالي التي أحضرها لتخريج أبنائي وبناتي    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    71 فناناً وفنانة في معرض «كروما» بجدة    حل وسط مع الوزراء !    محاولة يائسة لاغتيال الشخصية السعودية !    طريق الأمير محمد بن سلمان.. أهم مسار لتنقل الحجاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    خادم الحرمين الشريفين يصدر عددا من الأوامر الملكية    السلطات الفرنسية تطارد «الذبابة»    بوتين يصل إلى الصين في زيارة «دولة» تستمر يومين    استمرار الجسر الجوي الإغاثي إلى غزة    «الحر» يقتل 150 ألف شخص سنوياً    دعوة عربية لمجلس الأمن باتخاد إجراءات سريعة توقف العدوان الإسرائيلي    السفير الإيراني يزور «الرياض»    شتلات شارع الفن    خارطة طريق سعودية - أميركية للتعاون في مجال الطاقة    في نصف نهائي المربع الذهبي لكرة السلة.. قطبا الرياض يواجهان الأهلي والاتحاد    في قمة مواجهات الجولة 32 من «روشن».. ديربي الرياض بروفة نارية لنهائي كأس الملك    توثيق من نوع آخر    خطوة جادة نحو رؤية وزارة الرياضة    القيادة تهنئ رئيس الباراغواي ورئيس وزراء سنغافورة    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    باكوبن والدقيل يزفون المهندس محمد    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    السعودية مثال يُقتدى    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    وزير الاستثمار: الاقتصاد السعودي الأسرع نموا وجاذبية    إنتاج الصقور في الحدود الشمالية    "الدرعية" تُعزز شراكاتها الاقتصادية والسياحية    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    مختصون يدعون للحدّ من مخاطر المنصّات وتقوية الثقة في النفس.. المقارنة بمشاهيرالتواصل الاجتماعي معركة خاسرة    5 منافذ في الشرقية تستعد لاستقبال الحجاج    استشاري ينصح مرضى العلاج الكيماوي بتأجيل الحج    «الداخلية» تطلق ختماً خاصاً للمستفيدين من مبادرة «طريق مكة»    "تاسي" أحمر والراجحي وأكوا باور يرتفعان    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة في سباق للمجد.. الجمعة    «نافس».. منافع لا تحصى لقياس الأداء التعليمي    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    قمة البحرين ظروف استثنائية لحلحلة الأزمات    جامعة الأميرة نورة تُنظِّم مؤتمر لترجمة الهُوية السعودية عبر اللُّغات والثقافات الأخرى    «الموارد»: تمكين 22 ألف مستفيد من «الضمان» في سوق العمل خلال الربع الأول من 2024    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    «النيابة»: باشرنا 15,500 قضية صلح جنائي أسري.. انتهاء 8 آلاف منها صلحاً    أفضل الإجراءات وأجود الخدمات    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دولوز في قراءة نقدية ل"بحث هيوم"
نشر في الحياة يوم 05 - 01 - 2000

يقدم لنا جيل دولوز قراءة نقدية لكتاب "المبحث" للفيلسوف التجريبي هيوم عن الطبيعة البشرية، ونتناول في هذا العرض صيغة التصور الفلسفي لطبيعة المعرفة والأخلاق المبادئ والقواعد العامة وكيفية تأثيرها في الفكر، كما طرحها هيوم معتمدين على مقولاته كما جاءت في سياق الكتاب.
يرى هيوم أن على الفكر أن يكون متأثراً وهو الشرط الضروري لإمكان وجود معرفة على وجه العموم. والفكر لا يتأثر إلا بشكلين: الانفعالي والاجتماعي. وهما معاً يشكلان جزءاً من الطبيعة البشرية، إلى جانب الفهم والتداعي إنطلاقاً من مفهوم السيكولوجية الممكنة وهي، لدى هيوم، سيكولوجية تأثرات الفكر، وليست سيكولوجية الفكر بحد ذاته، اذ إنها ممكنة التشكل والديمومة والثبات بفعل مبادئ التداعي، المبادئ التي يرى فيها هيوم الأصل في تأثر الفكر وتأكيد الطبيعة البشرية.
إن التأثير والفهم والتداعي هي الظواهر الرئيسية للطبيعة البشرية التي يقدم لنا هيوم تحليلاً لكيفية عملها من خلال نظرية ذات قطبين: التجريبية والذاتية. أو الذرية والترابطية، على اعتبار أن الذرية هي سيكولوجية للفكر، سيكولوجية للفكرة، للعناصر البسيطة أو الحدود الدنيا للأشياء التي لا تقبل القسمة: هي تشغل بشكل أساسي الجزء الثاني من منظومة الفهم، فكرتي الحيز والزمن وبوصف العلاقات خارجية بالنسبة الى الأفكار، أما الترابطية فهي سيكولوجية الطبيعة البشرية، سيكولوجية النزعات، علم للممارسة، وللأخلاق بوجه خاص، وللسياسة والتاريخ، وهي نقد حقيقي للسيكولوجيا لأنها تجد حقيقة موضوعها المعطى في كل التحديدات التي ليست معطاه في فكرة، في كل الكيفيات التي تتجاوز الفكر كما تدرس العلاقات كشيء خارج الأفكار وهي العلاقات التي تقيمها وتدركها الذات انطلاقا من مبادئ التداعي.
أما الذاتية: هي الذات بوصفها تتأمل، تتحدد الذاتية كمعلول، إنها انطباع انعكاس، حيث يصبح الذهن ذاتاً فيما تؤثر فيه المبادئ.
وجوهر التجريبية ومصيرها مرتبطان بالتداعي، وهي من حيث الجوهر لا تطرح مشكلة أصل للفكر، بل مشكلة تكوين للذات، تنظر الى هذا التكوين في الفكر على أنه معلول مبادئ عليا لا ناتج تكوّن.
إن التجريبية الذاتية فلسفة تسبر غور الطبيعة البشرية لتقف على تلك المبادئ والقواعد أو القوانين التي فيها تكون معرفة، فهي تتكون في الفكر تحت تأثير المبادئ التي تؤثر فيه.
يتناول هيوم في كتابه "المبحث" موضوعات ذات أهمية كبيرة تتوزعها الأسئلة التالية: كيف يصبح الفكر طبيعة بشرية؟ كيف يصبح الفكر ذاتاً، والخيال ملكة؟ كيف تصبح مجموعة أفكار منظومة؟ إن مشروع هيوم الحقيقي هو البحث في مبادئ الطبيعة البشرية، كيف تتكون الذات في المعطى؟ وعلاقته هذه بالثقافة، أو علاقة النزعة بالمؤسسة، ويبدأ مشروعه ذلك من خلال تحليل عميق لارتباط الفكرة والفكر والخيال وتطابقها في الخيال، وارتباط النزعة بالمؤسسة، من خلال مبادئ الطبيعة البشرية، والقواعد العامة التي يحددها بأنها منظومة لوسائل مخترعة أو مصطنعة.
يركز هيوم على الخيال فيحدده بأنه مكان يجب تحديد مكانه، ولا شيء يفعل بواسطة الخيال بل كل شيء يفعل في الخيال، والفكرة موجودة في الخيال، حتى وإن تم انتاجها في الخيال فما هذا الانتاج إلا إعادة إنتاج انطباع في الخيال، وله نشاط آخر لا يقل أهمية عن النشاط الأول ولكن بلا استدامة أو تشاكل فنطاسي هو حركة الأفكار ومجموع أفعالها وردود فعلها، ومبادئ الطبيعة مبادئ التداعي الثلاثة التي تعمل على تثبيته وإعطائه استدامة وتشاكل وهي الطريقة التي تتداعى بها الأفكار في الخيال ولم يكن ليحصل عليها لولا فعل تلك المبادئ التي تشكل المعطي كمنظومة، أي مجموعة الإدراكات أو مجموعة الأفكار أو التجربة من خلال إقامة علاقات هي الكيفيات الاصلية للطبيعة وليست سمة من سمات الفكرة أو الأفكار. إن هيوم يطرح مسألة الذات وكيفية تشكلها في المعطى، في التجربة، وضمن أي شروط ممكنة لذلك التشكل.
تتخذ التجربة لدى هيوم معنيين: تطلق تسمية تجربة على مجموعة الإدراكات المتميزة وقد تطلق على موضوعات كانت التقت في الماضي، أو هي الملاحظات الماضية التي يتولد عنها عقل خالص وأفكار.
أما العلاقات فلا تشتق من التجربة بل هي معلول مبادئ التداعي، مبادئ الطبيعة البشرية، التي تكوّن ذاتاً قادرة على تجاوز التجربة، وهذه المبادئ لا تأتي من التجربة، بل على العكس التجربة هي التي يجب فهمها كمبدأ.
لدى هيوم إذن أفكار، وعلاقات هي ناتج أو معلول المبادئ، وهي لا ترتهن بالأفكار، والمشكلة الحقيقية عند هيوم هي كيف تتكون الذات في المعطى؟ أو، كيف يصبح الخيال ملكة؟ كيف يتكون قانون إعادة إنتاج التمثلات، اي تأليف لإعادة الانتاج تحت تأثير المبادئ. فالتجربة لا يمكن تعريفها الا من منطلق ثنائية او ازدواجية هي بين المعطى والذات، الحدود والعلاقات، او بين قدرات الطبيعة المخفية ومبادئ الطبيعة البشرية على اعتبار ان المعطى والذات والعلاقات أولية، وأن هناك اتفاقاً بين الطبعية والطبيعة البشرية، القدرات التي في اصل المعطى والمبادئ التي تكوِّن ذاتاً في المعطى، مما ينتج عنه مشكلة ميتافيزيقية هي مشكلة الغائية.
المرجع الوحيد الذي اعتمده هيوم لتأكيد ذلك الاتفاق: ألا يكون المعطئ هو ايضاً وأولاً خاضعاً للمبادئ التي تنظم ربط التمثيلات التجريبية اذ لن تتمكن الذات من مصادفة ذلك الاتفاق الا عرضاً او بالمصادفة، ولن تستطيع ربط هذه التمثيلات وفقا لما لدى ملكتها من قواعد.
وعند الحديث عن مشكلة الغائية لا بد من تلخيص لحظات فعل المبادئ العامة في الفكر، والبحث في كل لحطة من تلك اللحظات عن وحدة مبادئ التداعي ومبادئ الانفعال، الحدة التي تمنح الذات بناها المتعاقبة، وهذا ما سيتضح عند الحديث عن الاخلاق وعلاقة الذات بالمجتمع او المؤسسة.
يقول هيوم إن للاخلاق طبيعة اصلية: انها ناتج التبصر في طبع على وجه العموم، بما هو مفيد للغير او للشخص بالذات، من دون الرجوع الى مصلحتنا الخاصة. ما يجعل من الممكن التخلص من وجهة نظر خاصة بنا هو التعاطف. الا ان هذا التعاطف مرهون بالطبيعة البشرية ومبادئها فيكون عن طريق تحديدات المبادئ الثلاثة: الاقتران والتشابه والسببية. من نحبهم هم اقرباؤنا واشباهنا وأهلونا، ومعنى ذلك ان للتعاطف امتداداً لكنه مرهون بالظروف التي تحد من امتداده، وهو ما يسميه هيوم بالتحيز، ولكي يكون التعاطف اخلاقياً يجب ان يملك حالة من الامتداد لا ترتهن بالظروف السابقة، واستبعاد الحالات التي لا تقدمه.
الانسان من وجهة النظر هذه يكون اقل انانية مما هو متحيز، كنه المصلحة الخاصة ليست الانانية بل التحيز، ان تعددية التحيزات هي ما يجعل الناس يفتقدون الى لغة عاقلة بينهم مما يفضي الى التناقض والعنف، وهذا بدوره يفضي الى حقيقة المشكلة الاخلاقية، حيث ان المجتمع يجد في التحيز القدر ذاته من الإعاقة التي يجدها في الانانية.
اذا صح ذلك فأي اهمية تعزى الى هيوم في تقديمه ملاحظته تلك بأن الانسان ليس انانياً بل متعاطف؟
يرى هيوم ان بنية المجتمع تتغير حسبما ننظر اليه انطلاقاً من الانانية او التعاطف. فبالنسبة الى الانانيات واجب عليها الحد من نفسها، اما بالنسبة الى التعاطفات فينبغي دمجها في جملة إيجابية، فليس المجتمع، حسب نظرية العقد الاجتماعي، مجموعة من تقييدات الانانيات والمصالح، بل يجب فهم المجتمع على انه منظومة ايجابية لمشاريع مخترعة، غايات، ولأن المجتمع ما هو الا عائلات تحكمها الغريزة الجنسية والتعاطف، وهذه العائلات هي الوحدات الاجتماعية حقاً، فالمجتمع ليس اجتماعاً عائلياً بل اجتماع عائلات، حيث ان هذه الوحدات لا تتجمع بل تستبعد بعضها بعضاً يحكمها مبدأ التحيز، او ان هذه التعاطفات الطبيعية عاجزة بذاتها عن تشكيل عالم اخلاقي.
وهنا مكمن المشكلة الاجتماعية، مشكلة دمج تلك الوحدات في وحدة متكاملة، وليست تقييداً او وضع حدود، اختراع كل تنجمل فيه المصالح الخاصة والتحيزات، وهذا يعني ان يتخطى التعاطف تناقضه او تحيزه الطبيعي، وهذا يتطلب عالماً اخلاقياً ايجابياً يتم اختراعه ايجابياً، في هذا العالم الاخلاقي المخترع يتم الانتقال فيه من التعاطفات الفعلية التي يستبعد بعضها بعضاً الى كل فعلي يتضمن التعاطفات... اي تمديد التعاطف بحيث يتجاوز حدوده الطبيعية.
اذن العالم الاخلاقي - كما يرى هيوم - لا يؤول الى غريزة اخلاقية او الى ظروف التعاطف الطبيعية ليست طبيعتنا هي الاخلاقية، بل اخلاقنا هي التي في طبيعتنا، إذن الحس الاخلاقي لا يتأكد الا بتجاوز التحيزات الخاصة بنا، عندما "نعطي الصفات الاخلاقية ذاتها التأييد ذاته، على الرغم من تغيير تعاطفنا، سواء كانت هذه الصفات في الصين او انكلترا" باختصار "يتغير التعاطف من دون ان يتغير تقديرنا".
ولن يتحقق وجود هذا العالم الاخلاقي الجملة الاصنطاعية التي تتكامل فيها وتتجمع الاهداف الخاصة ولن يتم الا من خلال قواعد عامة تكون بدورها قانون بناء، ينظم عناصر الطبيعة ومبادئها بالذات، او منظومة وسائل تتيح للمصالح فرصة تحققها من دون ان يكون هناك تناقض او عنف.
والقاعدة العامة عند هيوم هي: منظومة وسائل موجهة، مجموع محدد او هي معيار عام غير قابل للتغير، ولها قطبان: شكل ومضمون، محادثة وملكية، منظومة الآداب الحسنة وثبات الحيازة، فالقطب الاول مثلا: يستطيع الفرد وهو في مجتمع ان يحل المحادثات محل العنف، ان يتصور فكر الآخرين شرط ان يتخطى تعاطفاته الخاصة وأن يتغلب على تحيزاته، بكلام آخر... يمكن ان يمارس التعاطف الطبيعي بصورة مصطنعة لكن خارج حدوده الطبيعية. ووظيفة القاعدة العامة هي تحديد وجهة نظر ثابتة مشتركة، حازمة وهادئة، ومستقلة عن وضعنا الراهن.
كل ما ينتج في الافعال البشرية مخالف لرؤية عامة يسمى عيباً. وبهذا يتضح لنا ان الالتزام هنا منتج اصطناعي، وبما انه كذلك فهو يتميز عن الالتزام الطبيعي من حيث الجوهر، وعن المصلحة الطبيعية والخاصة، وعن الدافع للفعل: هو الالتزام الاخلاقي او حس الواجب.
هذا في ما يتعلق بالقطب الاول، اما القطب الثاني الملكية او ثبات الحيازة او المضمون فهي تفترض شروطاً مماثلة "من مصلحتي ان اترك الغير يتمتع بممتلكاته شرط ان يتصرف الغير بالطريقة ذاتها حيالي" حيث تكون مصلحة الغير هنا مصلحة عامة. ان اصطلاح الملكية هو الاصطناع الذي تتعلق عبره افعال كل شخص بأفعال الآخرين، هو إرساء رسم ذهني او تأسيس مجموع رمزي او كل.
إن دور القاعدة العامة مزدوج: امتدادي وتصحيحي في الوقت ذاته، حيث تصحح عواطفنا من خلال نسياننا وضعنا الراهن وان نتجاوز تحيزاتنا، فالامتدادية هي تجاوز التحيزات الطبيعية، والقاعدة العامة هي تضمن الاستثناء، هي التعاطف مع الغير.
هنا يحضرنا سؤال في غاية الاهمية: كيف يكون اختراع القاعدة ممكناً، اي منظومة الوسائل تلك او المجموعات التصحيحية والامتدادية في آن؟
يحدد هيوم منطلق هذا الإمكان من خلال نظريته عن الاصطناع، وتصوره الكامل للعلاقات بين الطبيعة والثقافة، او بين النزعة والمؤسسة.
يرى هيوم ان الطبيعة تشترط مماثلة المصالح الخاصة، التي في الوقت نفسه من المستحيل تماثلها او اندماجها بشكل طبيعي، ليكون في الإمكان وجود قاعدة عامة او إمكان وجود محادثة او ملكية، لذا يرى هيوم ان التعاطفات تجد نفسها في خيار هو التالي: الامتداد بواسطة الاصطناع او تدمير الذات بواسطة التناقض. وهي ايضا الانفعالات. فهي إما ان تكفي نفسها بنفسها بصورة اصطناعية، منحرفة او ان تنفي نفسها بالعنف. لذا كما يقول بنثام ان الحاجة طبيعية لكن ارضاء هذه الحاجة لا يكون الا اصطناعياً او ثقافياً، فتلك المماثلة في المصالح التي تشترطها الطبيعة لا يمكن تحقيقها الا اصطناعياً، وتعني هذه الاصطناعية أن تلغى كل العوائق الطبيعية امام المماثلة الطبيعية لهذه المصالح، فالاصطناع يضمن للتعاطف والانفعال الطبيعيين امتداداً خارج حدودهما الطبيعية، ومن ثم إمكان اختراع قاعدة عامة.
فالعدالة مثلاً ليست مبدأً من مبادئ الطبيعة إنما هي اصطناع، قاعدة او وسيلة والتي فيها ترجع المصالح الطبيعية الى مقولة المجموع السياسية او الجملة. هي امتداد الانفعال او المصلحة التي لا تقسر ولا تنفي الا حركتها المتحيزة، وهذا الامتداد بدوره ما هو الا تصحيحياً او انعكاساً، بمعنى انعكاس المصلحة اي نوع من لي الانفعال بالذات في الذهن الذي يؤثر فيه ليصبح الانعكاس ما هو الا عملية للنزعة التي تكبح ذاتها بذاتها. من هنا يظهر لنا ان الثنائية الحقيقية عند هيوم بين مجمل الطبيعة هذه متضمنة الحيلة او مضمون القاعدة العامة كما سبق شرحه والفكر الذي تؤثر فيه.
بالنسبة الى الطبيعة البشرية فلها كيفيتان، ضربان من التأثر: معلولات التداعي، ومعلولات الانفعال، وكل واحدة من هاتين الكيفيتين هي تحديد منظومة الفهم، ومنظومة الانفعالات والاخلاق، يبدو التوازي يقوم ويتواصل بينهما، مثلما يحدد التداعي للفكر عمومية ضرورية، قاعدة لا غنى عنها لجهد المعرفة النظرية الذي يقوم به فإن الانفعال يقدم له مضمون استدامة، يجعل من الممكن نشاطاً عملياً واخلاقياً.
بداية نقول إن هيوم يؤكد على ان الذات هي معلول المبادئ في الفكر... ليست سوى الفكر مفعلاً، أي الفكر وقد فعلته المبادئ، وبمقدار ما تغرز المبادئ معلولها في الفكر... تصبح الذات وهي هذا المعلول بحد ذاته، اكثر فأكثر فعالية، وأقل فأقل إنفعالية، فقد كانت منفعلة وأصحبت فاعلة، فالذات إذن سيرورة وواجب جرد شتى لحظات هذه السيرورة. فالذات في البدء هي انطباع تتركه المبادئ لكنه يتحول تدريجاً الى آلة قادرة على استخدام هذا الانطباع.
ومعلول المبدأ هو دائماً انطباع انعكاس، نزعة، انفعال، الذاتية اذن انطباع انعكاس، الذي بدوره يصدر عن انطباعات الإحساس.
هنا يتقدم سؤال مهم جداً: كيف يتم اختيار انطباعات احساس من بين المجموعة او الانطباعات الأخرى لأن تكوِّن ما يصدر عنها من انطباعات انعكاس؟ يقول هيوم إن المبدأ هي هذه وظيفته الرئيسية، فمثلا لكي يتم صدور انطباعات متشابهة او مقترنة يجب ان يكون التشابه او الاقتران مبدأين، بمعنى انه لكي يصدر انطباعات انعكاس عن بعض انطباعات الاحساس ينبغي ان تكون للفكر ملكات مصوغة بطريقة مناسبة، يجب ان تكون له طبيعة بنية لا يستمدها من ذاته، فالمبدأ اذن يدخل بين الفكر والذات، بين انطباعات الاحساس والانعكاس بحيث تصدر الثانية عن الاولى، فالمبدأ قاعدة السيرورة، العنصر المكون في بنية الذات في الفكر، مبدأ طبيعتها، لذا نلاحظ ان المبدأ له دوران: الاول دور انتقائي والثاني دور مكوِّن. هناك مبادئ الانفعال التي تختار انطباعات اللذة والألم، من بين انطباعات الاحساس ليأتي دور مبادئ التداعي لتختار من جهتها الادراكات التي يجب ان تتحد في مركب هو انطباع انعكاس، بحيث يكون في علاقة مع بعض انطباعات الاحساس، إذن المبادئ قوانين للطبيعة البشرية لتجعل علماً للانسان ممكناً، ومبادئ التداعي لها ثلاثة معلولات: الافكار العامة، الجواهر، العلاقات الطبيعية، وفي هذه الحالات الثلاث يتكون المعلول من انطباعات انعكاس، من انفعال، من تحديد يخضع له الفكر وهو ما يسميه هيوم نزعة او عرف او استعداد. فالأفكار العامة مثلا: يدل مبدأ التشابه على بعض الأفكار المتشابهة، وتجمعها تحت اسم واحد. وهذا الاسم عندما يشترك مع فكرة كان قد ايقظها الاسم في الفكر ينتج عرفاً، قوةً، قدرةً على استرجاع انطباع انعكاس، وكذلك بالنسبة الى مبادئ الاقتران والسببية حيث تجمع بعض الأفكار التي تكون في ما بينها مجموعة اتحاد، وفي حالة العلاقات الطبيعية نجد ان كلاً من المبادئ الثلاثة يدل على بعض الأفكار والانتقال السهل من بعضها الى البعض الآخر.
إذن معنى مبادىء التداعي هو التالي: تكوين انطباع انعكاس، انطلاقاً من انطباعات إحساس مشار اليها. الى جانب مبادىء الانفعال كمبادئ للطبيعة، لها تأثيرها في الفكر، تكييفه، لكن على العكس، يعكس الفكر انفعاله، تأثراته، وبالنسبة الى معنى مبادئ الانفعال فلا يتغير عن مبادئ التداعي الا ان الفرق بينهما هو ان الانفعال له معنيان فهو: اما انطباعات مختارة، للذات وآلامٍ، لكن انطلاقا من اللذات والآلام، فهي انفعالات مباشرة، او كاندفاع طبيعي كغريزة تنتج انطباعاً انعكاسياً وهي الانفعالات غير المباشرة، حيث تصدر عن المبادىء عينها لكن بالتقاء كيفيات اخرى، اذن الانفعال له علة دائمة، فكرة تثيره، انطباع يصدر عنه، يكمن في انطباع انعكاس دائما، في تأثر لذيذ او كريه.
اذن هناك نوعان من انطباعات الانعكاس، نوعان من الانفعالات العاطفية، بعضها يحول الفكر نحو الخير او الشر، اللذة او الألم اللذين يصدر عنهما، والبعض الآخر نحو فكرة موضوع ينتجه الفكر ذاته، او بكلام آخر: هناك انفعالات مباشرة بمقدار ما للخير والشر من اشكال وجود، والانفعالات غير المباشرة بمقدار ما هناك من انفعالات عاطفية تنتج فكرة موضوع.
الذات هي الفكر مفعلاً لكن هذا التفعيل سوف يفهم كانفعالية للفكر بالنسبة الى المبادئ التي تنتجها، كفعالية بالنسبة الى الفكر الذي يخضع لها، لذا نستطيع القول: ان ارتباط التداعي والانفعال كما الرباط بين الحقيقي والممكن، فالتداعي يعطي الذات بنية ممكنة والانفعال وحده يعطيها كينونة ووجوداً يجد معناه في العلاقة بين التداعي والانفعال.
هنا يتقدم هيوم بنا الى اهم ما في فلسفته من خلال هذا التحليل:
عرفنا ان المبادئ تثبت الفكر حيث تقيم مبادىء التداعي بين الافكار علاقات طبيعية، فليس مصادفة ان يتم المرور من فكرة الى اخرى. إن فكرة تشكل تمهيدا طبيعياً لأخرى، تحت هذا التأثير وجدت الفنطاسيا استدامة، لكن اذا كان الفكر مثبتاً بهذه الطريقة لما كانت هناك اخلاق، حيث ان الاخلاق عند هيوم لا تشتق من العقل، كما ان هناك اختلافاً جذرياً بين الاخلاق والعقل، اذن لا بد من تثبيت الفكر بطريقة اخرى.
هذا دور مبادئ الانفعال، حيث تدل على بعض الانطباعات التي يكونها الفكر على انها غايات نشاطنا، في الفكر انطباعات تسمى اللذات والآلام، لكن ان تكون اللذة خيراً والألم شراً، ان نميل للذة وننفر من الألم ليس هذا متضمناً في اللذة والألم بذاتيهما، هنا يأتي دور المبادئ، وذلك بأن تجعل مبادئ الانفعال من اللذة غاية تعطي الفعل مبدأه وتجعل منه حافزاً للفعل.
هنا يأتي دور القواعد بما انها قانون بناء، ان ينظم كل عناصر الطبيعة ومبادئها بالذات، لكن بأي كيفية؟ ان القاعدة هي امتداد للانفعال، وانعكاس له في الخيال، القاعدة العامة هي الانفعال المنعكس في الخيال، ففي الانعكاس يتخيل الانفعال نفسه وينفعل الخيال، فالتعريف الحقيقي للقاعدة هو انفعال الخيال، إذن القاعدة ممكنة.
واذا كان هيوم ينفي ان ترجع القواعد الى غريزة مما ينتج عنه التزام اصطناعي الا ان هذا لا يمنع من ان تكون هناك غريزة اخلاقية، وبالتالي وجود التزام طبيعي للقواعد العامة خصوصاً بعد تشكلها، فالتقدير مثلا نتاج التعاطفات الطبيعية الذي يجب الا يتغير بتغير هذه التعاطفات الا ان ذلك لا يمنع من القول أن التعاطف شرط التقدير، فالتقدير يتم بواسطة التعاطف.
من ناحية اخرى نجد ان هيوم على رغم انه يتجاوز الطبيعة في تحديداته الا انها المصب النهائي له، حيث يقرر ان العدالة هي اصطناع، الاصطناع بحد ذاته طبيعة تعود على الفرد الذي اصطنعها.
هذا ما ينقلنا الى الحديث عن النزعة والمؤسسة او الطبيعة والثقافة، من حيث وظيفة الثانية، فالطبيعة لا تصل الى غاياتها الا بواسطة الثقافة. ولا ترضي النزعة نفسها الا عبر المؤسسة. الطبيعة والثقافة تشكلان معاً كلاً او مجموعاً مركباً، فالطبيعة ضمن شروط القواعد العامة عملت على تشكيل الثقافة التي بدورها تعيد صياغة هذه الطبيعة، وكل نزعة لها وسائلها التي تنظم لإرضائها، وليس معنى هذا ان النزعة تفسر المؤسسة.
المؤسسة منظومة مخترعة لوسائل إيجابية غير مباشرة منحرفة مخترعة، انها باختصار ثقافية، يحكمها مبدأ المنفعة، الذي هو علاقة المؤسسة بالحاجة، حيث ان النزعة تشفي غليلها في مؤسسة على اعتبار ان المؤسسة كما يقول هيوم منظومة وسائل منحرفة غير مباشرة.
المؤسسة هي القاعدة، اذ انها لا ترضي النزعة من دون ان تقصرها في الوقت عينه، فيما الغريزة لا ترضي نفسها الا ضمن إطار محدد مسبقاً ومتفق عليه، كالزواج، مثلاً.
وهنا يأتي دور الفعل والعرف في تفسير المؤسسة، خصوصاً ان انعكاس النزعة هو الحركة التي تشكل العقل العملي والعقل ليس سوى لحظة محددة من تأثرات الفكر.
هناك ايضا تفسير آخر للمؤسسة انطلاقاً من الخيال، فلأن النزعة لا تفسر المؤسسة بل انعكاس النزعة في الخيال.
يرى هيوم ان التداعيات خاصة تتغير وفقاً للظروف ويتكشف الخيال كانتاج حقيقي لمثالات متنوعة الى ابعد الحدود، فالمؤسسات تحدد الصور التي ترسمها النزعات وفقاً للظروف حين تنعكس في خيال خاضع بطبيعته لمبادئ التداعي، فيأتي إرضاء النزعة ليس على مقاس النزعة بالذات بل النزعة المنعكسة في الخيال، وهذا هو معنى المؤسسة في اختلافها مع الغريزة.
في الختام يمكننا القول إن هيوم استطاع تقديم تحليل وافٍ لطبيعة النفس البشرية والنوازع ودور المؤسسة في تلبية حاجات الفرد بعد انعكاسها في الخيال.
جيل دولوز: التجريبية والذاتية في الطبيعة البشرية وفقاً لهيوم
- تعريب اسامة الحاج
- صدر عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.