بدأ في لندن "الصيف الفارسي"، مشتملاً عدداً من الفعاليات الفنية والاجتماعية التي تشير الى اهتمام بريطاني متزايد بإيران. أهم تلك الفعاليات، مهرجان السينما الإيرانية ومعرض الرسوم الفارسية الذي يقام في كاليري بروناي كلية الدراسات الشرقية - جامعة لندن. وفي كل مرة تذكر ايران يتردد قول هيغل على لسان صحافة الإنكليز: هذه البلاد تشكل جسر العبور بين الشرق والغرب. وما كف الأوروبيون عن الإعجاب بإيران والخشية منها أيضاً على عكس موقفهم من الكثير من بلدان الشرق، غير أن ايران في كل الأوقات هي بلاد فارس حيث تتواشج تواريخ ممالكها وامبراطورياتها على أشد ما يكون التلاحم مهما عبرتها من أديان ونحل ومعتقدات. يظهر هذا في مزاج الإيرانيين الجمعي، وفي فنهم وأدبهم أفضل ما يكون. تشكل اللوحات المعروضة بعض الكنوز الفنية لقصور السلالة القاجارية التي حكمت زهاء قرنين من الزمن 1785 - 1923 الى أن تولت السلطة بعدها الأسرة البهلوية. والقاجاريون مثل أسلافهم "الصوفيين"، قبائل تركية تمدنت بعد أن أقامت ملكها على أرض فارس، وقد ساروا على نهج الصفويين في المذهب الشيعي، وعلى تقاليدهم في العلاقة المتشاكلة مع الغرب بين الحرب والديبلوماسية، وفي السعي الى تأسيس دولة استبدادية قوية ولكنها تملك برلماناً. وورثوا أيضاً عادات رعاية الفنون والآداب من السلالات التي حكمت تلك البقاع ومن عراقة تقاليد الإمبراطورية الساسانية. كان لكل شاه قاجاري أكثر من رسام ومزخرف، اضافة الى الشعراء والكتّاب الذين يكملون زينة مجالس الأنس والبذخ المفرط. وكانت مهمة الرسامين ابراز سطوة الشاه على نحو فني يسحر الناظر، وتصوير هيئته مع مايرفل به من حلل وما يحيط به من طنافس ورياش تبعث على العجب. ولا يكتفي الشاه بعرض تلك الرسوم في بلاده، بل يبعث ببعضها مع نشطائه من الديبلوماسيين الى الممالك الأخرى البريطانية والروسية والنمسوية - المجرية وغيرها. لذا كانت اللوحات المعروضة من مقتنيات متاحف كثيرة من الارميتاج في روسيا حتى المتاحف النسموية والأميركية والألمانية، اضافة الى الممتلكات الإيرانية والبريطانية. نشاهد في هذا المعرض خلاصة مدارس متنوعة أفاد منها الفنانون في بلاط سلاطين القاجار: المنمنمات الصينية والهندية، وفن الرقش العربي وتقاليد التشكيل الفارسي في الرسم والجداريات والرقش. ونتعرف عبر اللوحات الى بقايا العصر الذهبي للفن الفارسي في مرحلة التيموريين - القرن الخامس عشر - التي تستعيدها هذه الرسوم مستعينة بعصر النهضة الأوروبية حيث تبرز القوة التعبيرية للوجوه، اضافة الى الإفادة من غنى الألوان وتناسقها ومحاولة الاقتراب من المنظور الأوروبي للرسم. معظم اللوحات رسم بالزيت على الكنفاس، وقسم منها مائي، وأكثرها "بورتريهات" للملوك والأمراء، اضافة الى صور المغنيات والجواري في قصورهم، ولعلها الأكثر غنى وأهمية. وبمقدورنا أن نستعيد في ملامح النساء وحركتهم، ملاحم الحب الهندي المصورة والتي أعاد انتاجها الرسم الفارسي في الفترة المغولية أجمل ما يكون. ولعل الرسوم والفنون الهندية عموماً كانت وما زالت من أهم روافد الرسم الفارسي. وان شئنا الدقة تبادلت الممالك القوية في الصين والهند وبلاد فارس التأثيرات الفنية والأدبية لحين حدوث الاختراق الغربي في الميادين الحضارية المختلفة وتلك الحركة يمكن متابعتها أوضح ما يكون في هذا المعرض. فمشاهد المعارك الحربية التي خاضها الفرس مع الروس والجورجيين وهي لفنان مجهول، يبدو فيها المنظور الشرقي ثابتاً ويحاكي رسوم الشاهنامة التوضيحية. وبمقدورنا أن نعثر في بعض اللوحات على قيم ايقونية مطعمة بعناصر شرقية تكسبها تميزها وخصوصيتها. وهناك جمال وترف الرقش الفارسي الذي يرمز الى السطوة، فالرسام الذي يحاول أن يجعل النظرة وملمح الوجه على مقربة من تعبير المهابة والجلال لا ينجح في بعض الأحيان يستكمل مهمته بالشغل على الملابس والفضاء الذي يحوي في العادة أيوان العرش أو البلاط ومستكملاته. وابراز تلك المساحات يحتاج الى الزخرفة والوشي وربما الاقتراب من الأشكال الثرية المتداخلة المشغولة بدقة متناهية في فن صناعة البسط والسجاد الذي تطور على يد فرق التصوف الإيرانية في عصور مختلفة. وبمقدورنا أن نتابع في الملابس والرياش تناظرات موزونة بمساحاتها على نحو يبرز الصيغة الرياضية في ترتيب الكتل والمساحات. تقابلات في التكوينات الهندسية وتوزيع لمنمنمات الورود والنباتات والأحجار الكريمة التي تحمل ايقاعها الهادىء في التعبير اللوني المكتوم والرصين. وفي لوحات أخرى نشاهد كوناً من البهجة الذي يبرز في ما يلف الجسد الأنثوي للملوك والأمراء من نعومة وجمال. الخصر الأهيف لثاني سلاطين السلالة فيض علي شاه والرشاقة والانسياب في يده التي تمسك صولجان العرش، وسيفه الذي يشابه حلية امرأة تنحسر عن غنج حركة كفه وكم ردنيه، كل تلك المكونات تأتي ويا للغرابة، على تناسق مع كثافة لحيته وحاجبيه الصارميين!. وفي بعض اللوحات التي تصور نساء القصر يجد الرسام القدرة على إظهار الحركة أو الفعل ويبدو فيها على دراية بأسلوب استخدامات الإضاءة والظلال للوحات عصر النهضة المتأخر. ولا غرابة أن علمنا أن القاجاريين كانوا منذ البداية على صلة وثيقة مع الحضارة الغربية على الرغم من معاركهم وتحالفاتهم التي حاولوا التخلص عبرها من مطامع الإمبراطوريات القوية. وتشير صور الفترات المتأخرة الى تأثيرات الغرب على أسلوب معيشتهم، حيث بدت ملابسهم أقرب الى البساطة وخفت لديهم مظاهر التفاخر وتقاليد عرش الطاووس. وتظهر الصور واللوحات المتأخرة استخدامهم وسائل الاتصال العالمية الحديثة ومنها الطباعة المتطورة وتحولهم عن الرسامين الى المصوّرين الى الفوتوغرافيين. وتلك المرحلة كانت تأذن بأفول نجمهم، وانتهاء عزهم الذي كان الرسم أحد شهوده ومؤرخيه.