توفي اقبال احمد، الذي يعد من ألمع المفكرين والناشطين السياسيين واكثرهم تفرداً خلال الخمس وثلاثين سنة الماضية، في 10 ايار مايو الجاري في احدى مستشفيات اسلام آباد نتيجة مضاعفات اعقبت عملية جراحية لعلاج سرطان القولون اُجريت له قبل ذلك باسبوع. اتصف احمد بجاذبية شخصية هائلة ومثل غير قابلة للفساد وبسخاء وتعاطف لا يكل ازاء الاخرين، وكان متحدثاً ومحاضراً غير عادي. وعلى رغم ان مواهبه تجلت على افضل وجه في بلاغته المتألقة او كتاباته الصحافية اللاذعة، احسب انه كان الاكثر نباهة واصالة بين المحللين المناهضين للامبريالية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً على صعيد ديناميات العلاقة بين الغرب والدول التي تحررت من الاستعمار في اسيا وافريقيا. عاش حياة اشبه بالملحمة، مليئة بالترحال واجتياز الحدود، منجذباً بشكل يكاد يكون غريزياً الى حركات التحرر والمضطهَدين وقضايا الشعوب التي تُعاقب ظُلماً سواء تلك التي كانت تعيش في المراكز الكبرى في اوروبا واميركا او في مخيمات اللاجئين والمدن المحاصرة والقرى التي تتعرض الى القصف المدفعي او تعاني الحرمان، في البوسنة والشيشان وجنوبلبنانوفيتنام والعراق وايران وكذلك، بالطبع، في شبه القارة الهندية. امتاز بمستوى مذهل من الاطلاع على التاريخ، سواء كان تاريخ الولاياتالمتحدة او العالم الاسلامي او البلدان المستقلة حديثاً، راسماً بدقة الفروق بين ما يحمله الدين والقومية من مثل وتطلعات وبين السلبيات التي تأتي بها الاصولية والتعصب القومي والتقوقع. وعلى رغم ما يشي به جسده الضئيل ومظهره الانيق من هدوء عميق ينبع من حال وفاق وانسجام داخليين، كان احمد مكافحاً شرساً، غاضباً في احيان كثيرة، ضد ما يعتبره وحشية وحماقة بشرية. كان معلماً لا يعرف الكلل، فقد كرّس نفسه خلال السنوات الاخيرة - من قبيل الدون كيشوتية احياناً - لانشاء جامعة بديلة في باكستان، اسمها "الخلدونية" نسبة الى المفكر الموسوعي والمؤرخ العربي الذي سعى احمد الى تجسيد رؤيته الشاملة للمغامرة الانسانية في منهاج تدريسي جديد يستند الى العلوم الحديثة في مجالات الثقافة والاجتماع والطبيعة. وجُنّد كثرة من اصدقائه في انحاء العالم للعمل مستقبلاً في هذا المشروع كاساتذة وامناء، وكان الجميع على اقتناع تام بان الهدف مستحيل وقابل للتحقيق على السواء. حملت حياته دائماً اثار عذابات الحركة الوطنية في الهند قبل الاستقلال وتقسيم البلاد في وقت لاحق. وكان، بعد نشأته في بيهار، رحل مع افراد عائلته الى باكستان في 1948. وقبل ذلك كان والده قُتل بسبب نزاع على الارض فيما كان الصبي يرقد بجانبه، وهو حادث مأسوي ترك اثراً عميقاً في نفس اقبال وكان يشير اليه بين حين وآخر عندما يهاجم نزعة الجشع المادي اياً كان نوعها، وهي صفة لم اعرف قط شخصاً طهّر نفسه منها كلياً كما فعل. وفي لاهور، التحق بكلية "فورمان" المسيحية واصبح ضابطاً في الجيش لفترة قصيرة، قبل ان يأتي الى الولاياتالمتحدة في منتصف الخمسينات بعد حصوله على زمالة "روتاري" لدراسة التاريخ الاميركي في كلية اوكسيدنتال في كاليفورنيا. وبعدها دخل جامعة برينستون في 1958 لمواصلة دراسته العليا بزمالة "بروكتور" وتخصص مزدوج في العلوم السياسية والدراسات الشرق اوسطية تحت اشراف فيليب حتي. وخلال السنوات التي امضاها في برينستون نال شهادة الدكتوراه في 1965 ذهب الى الجزائر وانضم الى جبهة التحرير الوطني، واصبح رفيقاً لفرانتز فانون، واُعتقل في فرنسا، وانشأ مركزاً ثقافياً في تونس، وبدأ تجواله في المغرب حيث لا يزال يتذكره مثقفون بارزون هناك. وخلال الستينات امتهن التدريس في جامعة كورنل لمدة ثلاث سنوات، وكذلك في شيكاغو، لكنه بقي باحثاً غير عادي، وكان بين اوائل اعضاء "معهد واشنطن لدراسات السياسة" المناهض للحرب الذي كان مركز ابحاث تقدمياً. وفي 1969، تزوج جولي داياموند، وهي مدرسة وكاتبة من نيويورك، وولدت ابنتهما دورا في 1971، وهي حالياً طالبة دراسات عليا في كولومبيا. وفي الفترة بين 1973 و 1975، انشأ احمد وترأس معهد "تراسناشونال" في امستردام، وهو فرع ل "معهد واشنطن لدراسات السياسة". وكان من اوائل المعارضين البارزين لحرب فيتنام. وفي 1970، وجّهت اليه بشكل مثير نوعاً ما تهمة ملفقة بالتآمر لخطف هنري كيسنجر وقدم الى المحاكمة الى جانب الاخوين بريغان. وكلّفه الدفاع عن نفسه كثيراً، ولو انه وشركاءه المزعومين في المؤامرة بُرّئوا من كل الاتهامات في ربيع 1972. وبسبب تأييده الصريح لقضايا لا تحظى بشعبية خصوصاً حقوق الفلسطينيين، فضلاً عن ثبات مواقفه السياسية، بقي بروفسوراً متجولاً وغير مثبت في جامعات مختلفة حتى 1982 عندما عيّنته كلية هامبشير، وهي مؤسسة صغيرة في مساتشوسيتس، بروفسوراً. وواصل التدريس هناك الى ان اصبح بروفسوراً فخرياً في 1998، عندما بدأ يوزّع وقته بين عمله هناك وباكستان. وتمكن خلال تلك السنوات من التجوال في انحاء العالم، وشملت رحلاته ايران والاراضي الواقعة تحت الاحتلال الاسرائيلي ولبنان وباكستان وافغانستانوالهند وسريلانكا واوروبا، وارجاء الولاياتالمتحدة. كان الجميع يطلبون منه ان يلقي محاضرات ويعطي مقابلات ويقدم الدعم، ولم يرفض ابداً اي فرصة لتقديم العون. فقد كان دائماً مستعداً للعطاء مدفوعاً بحماس وتضامن لا حد له، فضلاً عن الحاجة الى رؤية وتحليل انتقادي نزيه. وكان ما تعلم العرب منه عن اخفاقات النزعة القومية العربية، على سبيل المثال، اكثر مما تعلموه من أي شخص اخر. في 1980، في بيروت، كان اول من توقع بدقة الغزو الاسرائيلي عام 1982. كما توقع بصورة محزنة، في مذكرة وجهها الى ياسر عرفات وابو جهاد، الهزيمة السريعة لقوات منظمة التحرير الفلسطينية في جنوبلبنان. وكان خصماً لا يكل للنزعة العسكرية والبيروقراطية والتصلب الايديولوجي وما وصفه ب "مرض السلطة"، خصوصاً وبشجاعة بقدر ما يتعلق الامر باصدقائه. وبفضل ما امتاز به من حس مرهف لكل دقائق العملية السياسية، كان صحافيون متمرسون ومسؤولون دوليون ينشدون مشورته في شأن التيارات الغامضة المعاصرة في افغانستانوالجزائروايرانوالهند وباكستان وانغولا وكوبا وسريلانكا. وامتاز بمعرفة موسوعية عن الولاياتالمتحدة، استندت الى قراءات واسفار واسعة، واقترنت بحيوية اضفتها دماثته وعفويته. ولا يمكن لمن رآه وهو يجلس القرفصاء حافياً على ارضية غرفة جلوس، متحدثاً بلطف حتى ساعة متأخرة وممسكاً بقدح في يده، ان ينسى ابداً المنظر او نبرة صوته وهو يعلن عن "اربع نقاط رئيسية" لكن دون ان يتخطى ابداً نقطتين او ثلاثاً منها. وكانت كياسته واسلوبه البعيد عن التعالي يأسر بشكل خاص افئدة الشباب في كل مكان يحل فيه. كانت السياسة تشكل محور اهتمامه، خصوصاً خلال العقد الاخير عندما بدأ يكتب اعمدة بشكل منتظم لصحف في باكستان واوروبا والولاياتالمتحدة والعالم العربي. لكن مواقفه السياسية كانت فريدة من نوعها. وأحب الادب، بشكل خاص الشعر، وكان معنياً بالاستعمال الحساس والدقيق للغة، سواء كانت الاوردية او الفرنسية او العربية او الفارسية، بقدر ما يعني ذلك أي فنان. في المقابل بادله الود شعراء وكتاب مسرحيون ومنتجون سينمائيون وروائيون، من فيض احمد فيض واغا شهيد علي الى الياس خوري ومحمود درويش وغريس بالي. وامتاز بقلم رشيق، ولم تغره ابداً الكليشهات او الصيغ الجامدة، وكان يفضل الجمل القصيرة والحادة على المقالات المطولة والمليئة بالتعابير الطنانة حول قضايا نظرية او طروحات مفخمة. ولم يكن هناك من يفوق قدرة اقبال احمد على التقاط وادراك المعاناة الانسانية والرؤية المشوهة التي انتجت العنف الطائش للافراد او الحركات التي كانت، حسب تعبير مأثور له، راديكالية ولكن مخطئة. وسواء كان الامر يتعلق بالنزاع بين الاسرائيليين والفلسطينيين، او الهند وباكستان، كان قوة تدعو على نحو متناقض ظاهرياً الى كفاح عادل ولكن ايضاً الى مصالحة عادلة. وكان كل من يعرفه يتوجه اليه طلباً للنصح والمشورة والتشجيع. لم يتحدث ابداً عن مشاكله الخاصة، او صحته الواهنة او مشاعر الاحباط التي تنتابه. كان ذلك الشيء الفريد: مثقف لا تخيفه قوة او سلطة، رجل رفيع الثقافة بقي ببساطة مخلصاً لمثله وبصيرته حتى الرمق الاخير، رفيق درب لشخصيات معروفة ومتنوعة من عصرنا، مثل نعوم تشومسكي وهوارد زين وطارق علي وابراهيم ابو لغد وريتشارد فولك وفرد جيمسون والكسندر كوكبورن ودانييل بريغان، الذين كانوا جميعاً يكنون له اعجاباً كبيراً. واذا كان اقبال احمد يتسم بروح المزاح والسخرية والحيوية والعزيمة والكياسة، انيقاً في ملبسه وتعبيره، في منتهى الطيبة، وخبيراً متواضعاً في الطعام والنبيذ، فان افكاره الرئيسية كانت في النهاية هي دائماً التحرر والظلم، او كيف يمكن تحقيق الاول من دون إعادة انتاج المزيد من الثاني. اعتبر نفسه من القرن الثامن عشر، اي انه ينتمي الى الحداثة من خلال استنارته وسعة افقه وليس "التقدم" الزائف الذي يأتي عن طريق التكنولوجيا لا غير. وتمكن بطريقة ما من دون تباهٍ ان يحافظ على تراثه الاسلامي من دون الاستسلام للانعزالية الجامدة او لمشاعر الغيرة التي ترافقها في احيان كثيرة. لم تجد الانسانية والعلمانية الصادقة نصيراً افضل في هذا القرن المشبع بالدماء الذي يشرف على نهايته. ان اصدقاءه الذين لا يحصون ينعونه بعميق الاسى. * أستاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا.