بعد الانتهاء من مشاهدة الحلقة الأخيرة من "الموت القادم إلى الشرق"، التي شهدت ثورة المتمردين والعامة في وجه الاغراب اللصوص والقتلة الذين يقودهم شيراك... الذي سمى نفسه مصعب بن المهند، منذ نزوله وأصحابه إلى مدينة النور بصفة تجار، واقتحام القصر والقضاء على الأغراب من جهة، والعودة إلى الحلقة الأخيرة من "الكواسر" والعملان للكاتب هاني السعدي، اخراج نجدة اسماعيل أنزور، يجد المتابع أن الهدف الأعمق والحقيقي للعملين هو استخلاص مقولة أساسية وبسيطة: الصراع بين الخير والشر لن ينتهي ما دامت قوى الخير موجودة وقوى الشر تجد ما تتغذى عليه، حتى وان انتصر الخير في معركة، وانتصر الشر في أخرى، إذ أن نهاية كل من العملين التلفزيونيين تبقي الصراع مفتوحاً. على رغم قتل "شقيف" زعيم قبيلة اللصوص في "الكواسر" على يد خالد العربي، إلا أن الحلقة بقيت مفتوحة على اختفاء "ابن الوهاج"، ليس لأن ثمة جزءاً تالياً فحسب، بل لأن من الطبيعي أن يكون قتل شقيف لا يمكن ان يكون نهاية الشر، وكذلك كان الأمر في "الجوارح"، إذ ان قتل أسامة على يد ابيه ابن الوهاج لم يكن نهاية للشر. وهكذا جاءت نهاية "الموت القادم إلى الشرق" مفتوحة على بقاء الشر حاضراً، على رغم التمرد والثورة وتحرير مدينة النور من اللصوص التجار الذين راحوا يتحكمون فيها، إلا أن النهاية الحقيقية تمثلت في ظهور غريب جديد ليعلن "انها مدينة النور... المدينة التي وعدنا بها"... دليلاً على أن الانتصار الذي حققه المتمردون والعامة ليس نهائياً، بل مرحلة في الصراع الطويل الذي بدأ، وسيدخلون صراعاً جديداً مع غرباء من نمط آخر. قد يكون هذا التفسير واحداً من تفسيرات عدة يمكن أن تقال في معرض تحليل الأعمال التي يتصدى لإخراجها بإمكانات فنية باهرة المخرج السوري نجدة أنزور، وهو ليس التفسير الوحيد بالتأكيد، لكنه التفسير الأقرب إلى منطق الصراعات عبر التاريخ الذي يجري استلهام روحه واستخلاص جوهره - من دون تفاصيله - في عدد من الأعمال التلفزيونية التي نفذها أنزور منذ مطلع التسعينات، خصوصاً منذ "الجوارح" و"الكواسر" وحتى "الموت القادم إلى الشرق". إن استلهام روح التاريخ والافادة من تجاربه وصراعاته في صوغ عمل فني/ درامي، هو واحد من المهمات المطروحة على عاتق الفن عموماً، وعلى الدراما التلفزيونية خصوصاً. وليس مهماً التصنيف الذي توضع في إطاره هذه الأعمال، بل المهم هو مدى قدرتها على تجسيد القضايا الإنسانية بأبعادها الوطنية في صور فنية راقية. في "الموت القادم إلى الشرق" يواصل أنزور الاشتغال على خلق صورة باهرة توازي امكانات النص في حمل رسالة العمل إلى المتلقي/ المشاهد، وهي رسالة بسيطة في مضمونها، غنية في تفاصيلها وعناصرها الأساسية، شديدة المباشرة في طرح فكرتها. فالصراعات التي يشهدها العمل تعبر عن رموز وأوضاع يكاد المشاهد يحصرها في صراع مألوف في المنطقة هو الصراع العربي - الصهيوني، إلا أن من الظلم لعمل كبير كهذا أن يقتصر تفسيره على هذا الصراع، إذ يمكن تعميمه على حالات ووقائع من التاريخ المعاصر والقديم على حد سواء. ولعل الإطار الفني الذي خلقه المخرج والفريق الفني هو ما يبعد عن هذا العمل محدودية التفسير السابق، ففي هذا الإطار استطاع انزور، عبر الملابس والماكياج والاكسسوارات والعمليات الفنية الأخرى، ومن خلال التصوير خصوصاً، وبأداء كبار الممثلين، تجسيد ملحمة برموز كبيرة يمكن أن تعبر عن نفسها في كل زمان ومكان، من دون أن تفقد امكان التعبير عن الصراع العربي - الصهيوني وما يحيط به، وليلتقي الخاص العربي بالعام الإنساني في تشخيص قضايا وهموم البشر. يدور الصراع في هذا العمل بين أنماط ثلاثة من البشر: ثمة من يمثل الخير المطلق مثل حاكم مدينة النور نهار: لعب الدور جمال سليمان، والصافي وابنه سيف وشمس ابنة عباد. ومن يمثل الشر المطلق: عصابة اللصوص التي يقودها شيراك لعب الدور سلوم حداد الذث يبدو أنه يتخصص في هذه الأدوار منذ سنوات، ومن يتنقل ويتوسط بين الخير والشر كما هو حال الوزير عباد أسعد فضة. ينزل الأغراب - اللصوص إلى مدينة النور التي تعيش في أمان ورخاء، لا تعرف الشر، ويقدمون أنفسهم تجاراً ضاقت بهم مدينتهم، يبدأون بتقديم الهدايا الرشاوى لكسب ود المسؤولين، بدءاً من الحاكم نهار الذي يرفض الهدية فيقبلها وزيره عباد الطامع في الحكم. يلاحظ شيراك أبو الصادق، مصعب بن المهند التنافر والعداء بين عباد والصافي مستشار الحاكم، يستقطبون عباد ويوغرون صدره على الحاكم ومستشاره، ويتآمرون فيقتلون نهار والصافي وسواهما ويسلمون الحكم لعباد بشروطهم. ويغدو الحكم الحقيقي في أيديهم، أما عباد فهو واجهة أمام الناس. ومع حكمهم تبدأ مرحلة القمع والسلب حتى يضج العامة، وتبدأ كوابيس عباد الذي يكتشف مدى قسوة الأغراب ودمويتهم، ولا يجد سوى ابنته شمس دارينا الجندي ليبوح لها بمخاوفه، ثم يبوح لها بأن هؤلاء هم من قتلوا نهار والصافي وسيف، ولهذا عليها أن ترفض الزواج من زعيمهم الذي طلبها للزواج، فاشترطت عليه أن يجلب لها الطائر العجيب الذي يحط على شجرة في حديقة القصر أو طائراً يشببه. وتتعقد الأحداث بظهور شاب يدعى زياد ليعمل عند صانع العطور جبلة، ويلتقي بأبي الركاب نجاح سفكوني الذي يرسله إلى وادي الثعالب لجلب الطائر العجيب، فيأتي به بعد رحلة مخاطر كبيرة، ويشترط أن يقدمه بنفسه إلى الأميرة وأن يحصل على عمل في القصر، فيوافق عباد على رغم رفض أبي الصادق المصدوم وتشكيكه بزياد الذي سيعمل بستانياً يساعد أبا الرشد البستاني العجوز هاني الروماني. وفي هذه الأثناء تتصاعد أعمال التمرد وخطف رجال الشرطة، ويتصاعد في المقابل القمع، ويبدأ زياد، الذي نكتشف أنه سيف ابن الصافي، الذي حاولت العصابة قتله لكن طعنتهم لم تكن قاتلة. يبدأ بقتل رجال ابي الصادق داخل القصر، واحداً واحداً، ويلجأ أبو الصادق إلى اعتقال عباد وزوجته ويطلب من شمس الخروج إلى الناس وتهدئتهم، لكنها تخرج إليهم وتحرضهم فيهجمون على القصر ويسيطرون على كل شيء، في حين سيف سعد مينة يبارز زعيم العصابة ويصرعه، ويلتقي بشمس التي يجمعه بها حب منذ الطفولة، وفيما تحتفل مدينة النور وناسها، يظهر الغريب الجديد المولف هاني السعدي ليعلن ما ذكرناه في البداية. ليس هذا تلخيصاً لأحداث العمل الذي جاء في خمس وعشرين حلقة، إنما أبرز المحاور التي يتكون منها. فهناك، سوى هذه المحاور، حياة الناس، بما فيهم ناس القصر، الحياة اليومية والعلاقات المتعددة والمختلفة... من علاقة الحب البريء الطفولي بين سيف ابن الصافي وشمس ابنة عباد، إلى علاقة العداء بين عباد واصلافي لشعور الأول بأن الثاني اقرب إلى الحاكم نهار منه، مع أنه الصافي ليس سوى راع للماشية ولم يصبح مستشاراً إلا منذ فترة قصيرة. ولهذا فإن هذه العلاقة محورية في سير أحداث العمل وبنيته الدرامية وتطور حبكته. فالغيرة والحسد يدفعان عباد إلى التواطؤ مع الأغراب للتخلص من الحاكم ومن حوله، وما الابقاء على عباد إلا لأن الأغراب لا يستطيعون أن يحكموا المدينة مباشرة. يتناول المخرج هذه الحكاية، وما تنطوي عليه من حكايات، بكثير من التركيز على المحاور الأساسية، خصوصاً عبر الصورة والموسيقى المرافقة. ففي اختيار زوايا التصوير وعناصر المشهد وحركة الممثل، كما في طبيعة كل لقطة من اللقطات، ثمة مراعاة لما بين الكلمة والصورة من علاقة جدلية، حيث تكمل كل منهما الأخرى، أو تمهد لها أو تغنيها وتثريها، فهذه الأدوار تلعبها صورة نجدة بأسلوب ذكي وبحساسية فنية عالية، فهو يلجأ إلى التضخيم أو التقزيم في محاولة للتعبير عن الموقف الدرامي الذي تجسده اللقطة. إن مشهد عباد وهو يرضخ لشروط شيراك من أفضل المشاهد التي تعبر عن هذا التلاؤم بين الموقف والصورة. إذ تبدأ بلقطة زوم طويل تأخذ عباد في زاوية شبه مظلمة، وتبدأ اللقطة بالاقتراب لتظهر وجه عباد وملامحه الدالة على الضعف والتوتر أمام قوة وعنفوان شيراك المتضخم ذي الملامح الحادة الثابتة. ويقدم لنا المخرج مجموعة هائلة من اللقطات ذات النقاء والجمالية العالية والمعبرة أيضاً، من خلال حشد المجاميع الكبيرة، وتحريكها في صورة توحي بحجم أكبر مما تسمح به الامكانات الانتاجية، خصوصاً في مشاهد السوق والمعارك، ويستخدم الامكانات المتاحة ضمن أقصى طاقة للعناصر الفنية بأسلوب التضخيم نفسه. وبالاسلوب نفسه يعمل أنزور على استغلال وتفجير طاقات الممثل، سواء كان كبيراً ذا خبرة، أم شاباً جديداً، أم طفلاً، فهو يبرز امكانات التعبير بالجسد وبالوجه وملامحه على نحو يجعل من كل حركة جملة تعبيرية وصورة جمالية تجذب العين قبل أن تأتي الكلمة لتكمل المهمة التعبيرية. فمن بين زوايا كثيرة يختار المخرج الزاوية الأكثر ملاءمة في النظر إلى الممثل من فوق، من تحت، من أمام، من خلف، أو إلى الحوار الذي يجري بين اثنين أو أكثر من الشخوص. فما من لقطة بلا وظيفة، وإن كانت دون كلام فهي قادرة على توصيل فكرة. فلو تابعنا رحلة زياد سيف إلى وادي الثعالب، التي تمر عبر حلقات عدة، نجد ان طريقة المشي، والتوقف والنظرة الخاصة إلى شجرة ما أو في مفرق ما، كلها حرمات تعبر عن محاولة زياد أن يعرف أو يتذكر الطريق الصحيح إلى الوادي الذي عاش فيه مدة بعد نجاته من المجزرة التي قُتل فيها أبوه والحاكم نهار وسواهما. استطاع المخرج استغلال طاقات عدد كبير من الممثلين الكبار مثل سلوم حداد لعب هنا دور شيراك المختلف تماماً عن دور شفيق الذي أداه في "الكواسر"، رغم نقاط التشابه بين الشخصيتين، وأسعد فضة دور عباد هنا المختلف أيضاً عن دور ابن الوهاج في "الكواسر"، وجمال سليمان ودارينا الجندي وفادي إبراهيم وصباح الجزائري وفايز أبو دان... وسعد مينة وحسام عيد... الخ. وعلى صعيد العناصر الفنية، يلغت انتباه المتابع هذا الاهتمام بالملابس والمكياج والديكور والموسيقى، فقد شاهدنا ألوان وتصاميم ملابس المصمم جان بيير دليفير والمشرفة ندى العلي، على قدر عال من التميز والخصوصية والجمال. وفي الديكور، تمكنت رؤية الفنان أحمد معلا من استغلال امكانات المكان واضفاء لمسات عالية القيمة وبما يتلاءم مع بقية عناصر العمل، فالفضاء المكاني المزدان بالأقواس والزخارف العربية الحاضرة أصلاً جرى تهيئته بمزيد من العناصر الجمالبية وتوظيفه ليتناسب مع كل مشهد أو صورة. واستطاعت كاميرا وليد كمال الدين إبراز القدر العالي من الانسجام بين هذا القضاء السينوغرافي وعناصره من جهة، وبقية عناصر العمل من ملابس ومكياج، ولعبت موسيقى اسامة الرحباني دوراً أساسياً في إظهار ومتابعة المشاعر والأحاسيس والمواقف المختلفة التي كانت ترافقها، فبدت قادرة على الربط الشاعري والحساس للمشاهد واللقطات والمواقف.