فيصل بن فرحان: الوضع في غزة كارثي    أمير الرياض: المملكة تدعو لدعم «الإسلامي للتنمية» تلبية لتطلعات الشعوب    لتحديد الأولويات وصقل الرؤى.. انطلاق ملتقى مستقبل السياحة الصحية    عباس يدعو إلى حل يجمع غزة والضفة والقدس في دولة فلسطينية    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    ولي العهد يستعرض تطوير العلاقات مع أمير الكويت ورئيس وزراء العراق    بدء العمل بالدليل التنظيمي الجديد للتعليم.. الأربعاء    عبدالله خالد الحاتم.. أول من أصدر مجلة كويتية ساخرة    «جلطة» تنقل الصلال إلى المستشفى وحالته مستقرة    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    دولة ملهمة    «رابطة العالم الإسلامي» تُعرِب عن قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي في مطار الملك خالد    اللجنة الوزارية العربية تبحث تنفيذ حل الدولتين    " ميلانو" تعتزم حظر البيتزا بعد منتصف الليل    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    النصر والنهضة والعدالة أبطال الجولة الماسية للمبارزة    تتضمن ضم " باريوس" مقابل "فيجا".. صفقة تبادلية منتظرة بين الأهلي وأتلتيكو مدريد    منتدى الرياض يناقش الاستدامة.. السعودية تتفوق في الأمن المائي رغم الندرة    الأرصاد تنصح بتأجيل السفر برّا لغير الضرورة    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    آل طيب وآل ولي يحتفلون بزفاف أحمد    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    منصور يحتفل بزواجه في الدمام    دشن أسبوع البيئة بالمنطقة.. أمير الباحة يؤكد أهمية الغطاء النباتي    يعرض حالياً على قناة ديسكفري العالمية.. فيلم وثائقي عن الشعب المرجانية في البحر الأحمر    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    محمية الإمام عبدالعزيز تشارك في معرض أسبوع البيئة    ميتروفيتش ومالكوم يشاركان في التدريبات    اكتمال جاهزية كانتي.. وبنزيما انتظار    شوبير: صلاح يقترب من الدوري السعودي    د. اليامي: إهتمام القيادة بتنمية مهارات الشباب يخفض معدل البطالة    جامعة «نورة» تفتتح منافسات الدورة الرياضية لطالبات الجامعات الخليجية    أمير المدينة المنورة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب في دورته ال 12    منجزات البلدية خلال الربع الأول بحاضرة الدمام    تعليق الدراسة اليوم الاثنين بالمدينة المنورة    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    صحن طائر بسماء نيويورك    جائزة الأميرة صيتة تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    أول صورة للحطام الفضائي في العالم    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    أمير الرياض يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    المسلسل    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدارس ورواتب المدرسين
نشر في الحياة يوم 29 - 04 - 1999

كانت بغداد مليئة بالمدارس الحكومية والخاصة بلغت في بعض الفترات 35 مدرسة اشهرها المدرسة المستنصرية التي كلف بناؤها 700 الف دينار واستمر العمل في بنائها 6 سنوات. وقد بناها الخليفة المستنصر سنة 625ه 1227م واعتنى بها عناية خاصة كما اهتم بطرازها وخدماتها وملحقاتها وكان اعلى راتب لموظف فيها 12 ديناراً وهو مبلغ جيد قياسا الى القوة الشرائية للدينار في ذلك العهد. فقد كان ناظرها عميدها يتقاضى 12 ديناراً شهريا. وكان فيها اربعة مدرسين يتولون تدريس الفقه على المذاهب الاربعة راتب كل منهم 12 ديناراً شهريا.
وكان كاتب الناظر يتقاضى 7 دنانير شهريا. اما امين المكتبة فيها فكان راتبه الشهري 10 دنانير لان امناء هذه المكتبة كانوا من المؤرخين والادباء ومنهم المؤرخان ابن الفوطي وابن الساعي. وقد ذكر كتاب الحوادث الجامعة انه نقل الى مكتبة المدرسة المستنصرية يوم افتتاحها من الكتب النفيسة المحتوية على العلوم الدينية والادبية ما حمله 160 حمالا وجعلت في خزانة الكتب سوى ما نقل اليها بعد ذلك. وكان وقف هذه المكتبة، كما يذكر المؤرخ شمس الدين الذهبي، 900 الف دينار من حوانيت في بغداد وقرى كبار وصغار وضياع وبساتين كان ينتفع منه المدرسون والمعيدون والطلبة والذين يبلغ عددهم، كما يقول الذهبي، 500 نفر. وذكر ان احد الثقاة حدثه ان وقفها بلغ في بعض السنين اكثر من 70 الف مثقال ذهبا. والمثقال هو الدينار. فقد ذكر انه في فتح افريقية بعد فتح مصر بلغ سهم الفارس 3000 مثقال وسهم الراجل 1000 مثقال كما يقول ابن الاثير في اسد الغابة. اما ابن حجر العسقلاني فيقول في الاصابة في تمييز الصحابة ان سهم الفارس بلغ 3000 دينار وسهم الراجل 1000 دينار، فالعرب اذن كانت تستعمل وزن الدينار وهو مثقال واحد للتعبير عن الدينار.
اما المشرف على المكتبة فكان يتقاضى 3 دنانير شهريا وراتب مناول الكتب ديناران شهرياً. اما شيوخ القرآن والحديث والعربية والطب فكان راتب كل منهم 3 دنانير. وكان لكل من اساتذة الفقه الاربعة اربعة مساعدين معيدين راتب كل منهم ديناران وعشرة قراريط بينما كان طالب الفقه في المدرسة يتقاضى منحة شهرية بمقدار دينارين في حين يتقاضى طالب القرآن والحديث والطب 13 قيراطا وحبة. وكان في المدرسة 248 طالباً في مدرسة الفقه و30 طالباً في دار القرآن و10 في دار الحديث و10 في مدرسة الطب. وكانت الخدمات من سكن وطعام وحلوى وفاكهة وحلاقة وسرج وزيت وصابون واستحمام واقلام وكاغد ورق ومعالجة طبية كلها مجانية في ملحقات خاصة بهذه الخدمات ملحقة بالمدرسة، وكانت توزع على الاساتذة ورجال الادارة يوميا كميات من الخبز واللحم والخضر والحطب تكفيهم مع عيالهم وضيوفهم ايضا.
الحياة الخاصة لفنان البلاط العباسي
كانت الحياة الخاصة لواحد من كبار فناني العصر العباسي هو ابراهيم الموصلي نموذجا لحياة الترف في البلاط. فقد كان لابراهيم الموصلي بيت كبير فيه سرداب يجري فيه نهر يأتي من بستان مجاور فيشرب منه الماء البارد وينام في هذا السرداب المبرد بشكل طبيعي في ايام الصيف. وكانت هبات الخلفاء جعلت من ابراهيم واحدا من مليونيرية العصر العباسي.
فقد كان طعامه معدا في كل وقت، اذ تهيأ له ثلاث شياه يوميا. واحدة مقطعة في القدور واخرى مسلوقة ومعلقة وثالثة تبقى حية، فاذا اتاه قوم طعموا ما في القدور، فاذا فرغت قطعت الشاة المعلقة ووضعت في القدور وطبخت وذبحت الحية فعلقت واتي باخرى حية الى المطبخ. وكان ابراهيم يصرف على طعامه 30 الف درهم شهريا وبهذا تكون الميزانية السنوية لطعامه 360 الف درهم.
اما امواله التي جمعها خلال حياته وغلات مزارعه وضياعه وثمن ما باعه من جواريه فكان 24 مليون درهم، عدا عن رواتبه التي كان يتقاضاها وهي 10 آلاف درهم في كل شهر، اي ان راتبه السنوي هو 120 الف درهم مضافة اليها غلاته والهدايا والصلات التي تصله من الرشيد والتي بلغت في احدى المرات 100 الف درهم وفي مرة ثانية 100 الف درهم اخرى وفي مرة ثالثة 50 الف درهم.
اما ابنه اسحاق الموصلي فقد تربى في قصور الخلفاء وفي رعاية والده فنان القصر العباسي اذ حصل اسحاق ذات مرة من الخليفة المأمون على مبلغ 100 الف درهم مرتين في شهر واحد اي 200 الف درهم في شهر. وحصل من الخليفة المعتصم على 30 الف درهم في احدى المناسبات ومن الواثق على 30 الفاً اخرى.
الوضع الاقتصادي لطبيب البلاط
وصل مستوى ثراء الطبيب جبرائيل بن بختيشوع، الطبيب الخاص للخليفة هارون الرشيد وعائلته وحاشيته حداً دفع احد المؤرخين وهو القفطي الى ان يضع عنوانا لترجمة الطبيب على النحو التالي ثبت ما كان لجبريل من الرزق والرسوم والصلات فعددها وكانت: ان راتبه في كل شهر هو 10 آلاف درهم. اي براتب سنوي قدره 120 الف درهم وله في مطلع كل سنة هجرية 50 الف درهم وثياب بقيمة 10 آلاف درهم وكان يقصد الرشيد مرتين في السنة فيعطيه عن كل مرة 10 آلاف درهم كما كان يسقي الرشيد دواء مرتين في السنة فيعطيه عنهما في كل مرة 10 آلاف درهم وكان يأخذ من اصحاب الخليفة 400 الف درهم اضافة الى الكسوة والطيب وهذا عدا عن غلة ضياعه في منطقة جند نيسابور.
تناقضات العصر العباسي
ورغم هذه الاموال الطائلة، ورغم هذه الحياة الباذخة كان هناك من يجاهد للبقاء في ديوان الفقراء، فقد جاء رجل الى ابراهيم بن ادهم، وكان معروفا بالورع والزهد والتواضع، بعشرة آلاف درهم والتمس منه ان يقبلها، فابى عليه فلح الرجل عليه، فقال له ابراهيم: يا هذا، اتريد ان تمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم؟ لا افعل ذلك ابداً.
ومقابل هذا الزهد والورع كان هناك الطمع واللطف بالاحتيال للحصول على الاموال في مجتمع شهد جميع الحالات من غنى طائل الى فقر مدقع، فقد تواطأ ابو دلامة مع ام دلامة على ان ياتي هو الى المهدي فينعيها، وتاتي هي على الخيزران فتنعيه. فاتى ابو دلامة الى المهدي وهو يبكي وانشد:
وكنا كزوج من قطا في مفازة/ لدى خفض عيش مورق ناظر رغد ِ
فأفردنا ريب الزمان بطرفه/ ولم نر شيئا قط اوحش من فرد
فقال له المهدي: ما بالك؟
فقال: ماتت ام دلامة واني احتاج الى تجهيزها فاطلق له مالا.
وأتت ام دلامة الى الخيزران زوجة المهدي وقالت: ان ابا دلامة مضى الى حال سبيله فاغتمت وامرت لها بمال. واعطتها ثيابا وطيبا.
ثم لما دخل المهدي على الخيزران قالت له: يا امير المؤمنين ان ابا دلامة مضى لسبيله ابقى الله امير المؤمنين. وام دلامة كانت عندي الساعة فاعطيتها التجهيز لزوجها. فقال المهدي: ان ام دلامة مضت لسبيلها، وكان عندي ابو دلامة الساعة واعطيته نفقة تجهيزها. فعلما انهما احتالا فضحكا واستدعياهما وخولاهما شيئا وضحكا منهما.
وبين المال والعلم بون شاسع كما تذكر لنا كتب الادب والتاريخ، فقد بقي الادباء والعلماء منغمسين في طلب العلم دون ان يأبهوا للمظهر او المال، فقد كان ابو الاسود الدؤلي اللغوي النحوي يجالس معاوية بن ابي سفيان وكانت للاسود جبة خز قد تقطعت فقال له معاوية: الا تمل لبسها؟ فقال الاسود: رب مملول لا يستطاع فراقه فامر له بمال.
وساعد بعض الامراء والخلفاء على حالات من التسول باسم الادب والشعر، وذلك بسبب الثراء وتكدس الاموال في القصور. وكان بلاط سيف الدولة واحداً من الامثلة على ذلك، حيث تكدس فيه شعراء وادباء وكتاب طلباً للمال والجاه والحظوة، فقد كان ابو جعفر الوراق قد قصد سيف الدولة في جملة من الشعراء فناوله درجا يوهمه انه شعر له. فنشره سيف الدولة فقال: ليس فيه شيء مكتوب. فقال: الامير يكتب فيه لعبده، فضحك وكتب فيه يامر باعطائه مالا.
ومقابل هذا الالحاح في طلب المال كان هناك من يتلجلج لسانه اذا ما اضطر لطلب حاجة، فقد قال سعيد بن العاص: موطنان لا اعتذر من العي فيهما: اذا سألت حاجة لنفسي، واذا كلمت جاهلاً.
وسار الفضل بن الربيع الى ابي عبادة في نكبته يسأله حاجة فارتج عليه، فقال له: يا ابا العباس بهذا اللسان خدمت خليفتين. فقال: انا تعودنا ان نُسأل لا ان نَسأل.
ومقابل هذا الكرم كان هناك الشح والبخل. ولم يخل البخل من طرائف وحكايات ظلت شاهداً على تلك الظواهر الاجتماعية، فقد حكي ان اعرابياً اكل مع رجل غني كان على مائدته ارغفة متباعدة، فلما فرغ الاعرابي من رغيفه قال: يا غلام، فرسي. فقال الرجل الغني: وما تصنع به؟ فقال الاعرابي: اركبه الى ذلك الرغيف.
وهجا وهب بن شاذان رجلا يقال له سليمان اقام وليمة لعرسه فقال:
مات في عرس سليمان من الجوع جماعة
مات اقوام.. وقوم علموا فيه القناعة
لم يكن ذلك عرسا... انما كان مجاعة
وكان الادب عاملاً من عوامل التعبير عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية ليس للمجتمع فحسب، بل للافراد ايضا، وكان بعض الادباء الظرفاء يعبرون بالكناية والتورية والاستعارة عن احوالهم، فقد قال ابو جعفر الوراق للصاحب بن عباد: ان جرذان داري يمشين بالعصا هزالا. فقال الصاحب: بشرهن بمجئ الحنطة. وامر له بمال.
واذا كان هناك كثير من البخلاء في التاريخ العربي، ممن ذمهم الجاحظ في كتابه البخلاء، فقد كان البخل عاراً يعير به القوم والجماعة، فقد قال الشاعر يذم قوما ببخلهم:
الآكلون خبيث الزاد وحدهم/ والسائلون بظهر الغيب: ماالخبر.
ووصلت المبالغة ببعضهم لوصف البخل بان قال اليزيدي: سيان كسر رغيفه او كسر عظم من عظامه.
وفي عصر شهد كل انواع المعاملات التجارية والاقتصادية والاجتماعية كان الافلاس ظاهرة ملازمة للعمل التجاري في العصور العربية والاسلامية ايضا. فقد قدم قوم غريمهم الى الوالي وادعوا عليه بالف درهم. فقال الوالي: ما تقول. فقال: صدقوا في ما يقولون، ولكني اسألهم ان يمهلوني لابيع عقاري وابلي وغنمي ثم اوفيهم. فقالوا: ايها الوالي قد كذب، والله ما له شيء من المال لاقليل ولا كثير. فقال: قد سمعت شهادتهم بافلاسي فكيف يطالبونني، فامر الوالي باطلاقه.
وحكم قاض على رجل بالافلاس فأركبه حماراً وطوف به ونودي عليه ان لا يبايع فهو مفلس فلما انزل قال له صاحب الحمار: هات الاجرة فقال له المفلس. ولماذا اركبتنا حمارك يا احمق.
وفي ظل التطور التجاري والاقتصادي وازدهار العلاقات التجارية ونمو الاموال، كان هناك من يوصي بثلث ماله للادب والعلم، فقد اوصى مسلمة بن عبد الملك بكثر ماله لطلاب الادب، وقال: انها بضاعة مجفوٌ اهلها. وقال سالم مولى مسلمة: كان مسلمة اذا دخل غلة ضياعه جعلها اثلاثا، فثلثا لنفقته، وثلثا للنوائب والحقوق، وثلثا يصرفه الى اهل الادب.
قال سالم: فقلت له يوما: يا مولاي، اذا ورد مالك صرفته في ثلاث: فاما النفقة فلا بد منها، واما النوائب والحقوق فحزم وقوة، ولا اعرف الوجه في ما تصرفه هؤلاء القوم. فقال: انهم تركوا التعيش، الطلب فاشتغلوا عن المكاسب بطلب العلم، فواجب كل ذي مروءة ان يعينهم، فقلت: يامولاي جعلته احب الاقسام الثلاثة اليَّ.
وحتى الخلفاء كانوا يطمعون الى الحصول من شعرائهم على اوصاف يقدرها المجتمع حق قدرها، فقد دخل الاخطل على عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين قد امتدحتك فاستمع مني. فقال عبد الملك: ان كنت انما شبهتني بالصقر والاسد فلا حاجة لي في مدحتك، وان كنت قلت كما قالت اخت بني الشريد يعني الخنساء لاخيها صخر فهات. فقال الاخطل: وما قالت يا أمير المؤمنين؟
قال: هي التي تقول:
وما بلغت كف امرئ متناول/ من المجد الا حيث ما نلت اطولُ
وما بلغ المهدون في القول مدحة/ ولو اطنبوا الا الذي فيك افضلُ
وجارك محفوظ منيعٌ بنجوة/ من الضيم لا يبكي ولا يتذللُ
فاضطر الاخطل ان يغير شعره ويقول لعبد الملك: والله لقد احسنت القول، ولقد قلت فيك بيتين ما هما بدون قولها، فقال: هات، فانشده:
اذا مت مات الجودُ وانقطع الندى/ من الناس الا من قليل مصردِ
وردت اكف السائلين وامسكوا/ من الدين والدنيا بخِلف مجددِ
لكن خميس البحتري لم يكن يوما طيبا له كما كان يوم الاخطل عند عبد الملك بن مروان، فقد سأل البحتري علي بن يحي المنجم ان يذكّر الفتح بن خاقان بموعد تقديمه الى المتوكل فوعده ان يقضيها يوم الخميس فتأخر عنه فقال:
اعليُّ من يأملك بعد مودة/ ضيعتها مني فاني آيسُ
لم ترعَ لي حقَّ القرابة ِ طيئٌ/ فيها ولا حق المودة ِ فارسُ
ووعدتني يوم الخميس وقد مضى/ من دون موعدك الخميسُ الخامسُ
الاختصاص
تطور الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية عند العرب والمسلمين ادى الى تطور الاختصاص واحترام معاييره. اذ دخل ابراهيم الموصلي وعليه طيلسان ازرق الى يحي بن اكثم قاضي القضاة وعنده العطوي الشاعر الكاتب، فتذاكروا الحديث فجرى معهم، ثم الفقهَ والنحو، ثم الشعرَ، فما مر شيء الا زاد عليه. ثم التفت الى يحي بن اكثم فقال: اصلحك الله، هل قصرت في شيء مما جرى؟ فقال: بل زدتَ، قال: فما بالي لنسبُ الى صناعة وانا احسن غيرها كما احسن منها؟ فقال الجواب في هذا على العطوي، فقال العطوي يخاطب الموصلي: اخبرني عنك، انت في الفقه كأبي حنيفة والشافعي؟ قال: لا. قال العطوي: فانت في الحديث كيحي بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي؟ قال: لا. قال العطوي:فانت في النحو كسيبويه؟ قال: لا، قال العطوي: فانما نسبت الى العلم الذي انت فيه اوحد لم يشاركك فيه غيرك. فسكت ابراهيم.
وعلى ذكر ابراهيم الموصلي، اكبر مغني العصر العباسي، والذي عكس حياة الترف الاجتماعية في بلاط العباسيين، فان اول غناء عند العرب كان في عهد عاد. فقد كانت الجرادتان، وهما اول مغنيتين، قينتين على عهد عاد لمعاوية بن بكر العملقي. وكانت العرب تسمي القينة الكربنة والعود المزهر. وكان غناء اهل اليمن بالمعازف وايقاعها جنس واحد وغناؤهم جنسان: حنفي وحميري، والحنفي احسنهما. ولم تكن قريش تعرف من الغناء الا النصب، حتى قدم الحارث بن كلدة من العراق وافدا على كسرى بالحيرة فتعلم ضرب العود والغناء عليه فقدم مكة فاتخذوا القينات.
وبطبيعة الحال فان تطورا شاملا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية آنذاك لا بد ان يترك بعض المبالغات في الوقائع والاجرآءات والاوصاف، اذ تروي الروايات ان معن بن زائدة اتخذ النبال والسهام الذهبية في صيده اذ يروى ان معن بن زائدة كان يتصيد فعطش ولم يكن ماء مع غلمانه. فبينما هو كذلك اذ مرت به جاريتان من حي هناك، في جيد كل واحدة قربة من الماء فشرب منهما وقال لغلمانه: هل معكم شيء من نفقتنا؟ فقالوا: ليس معنا شيء، فدفع لكل منهما عشرة اسهم من سهامه، وكانت نصالها من ذهب، فقالت احداهما للاخرى: ويحك، ما هذه الشمائل الا لمعن بن زائدة، فلتقل كل منا شيئا، فقالت احداهما:
يركّبُ في السهام نصال تبر/ ويرميها العدا كرما وجودا
فللمرضى علاج ٌ من جراح/ واكفان لمن سكن اللحودا
وقالت الثانية:
ومحاربٌ من فرط جود بنانه/ ِعمّت مكارمه الاقارب والعدا
صيغت نصال سهامه من عسجد/ كي لا يعوقه القتال عن الندى
وفي ظل اتساع التعامل النقدي، حث الفقهاء على الانفاق الذي اعتبره هو الثروة وليس جمع المال، فقد قال ابن عباس لرجل في يده درهم: ليس لك حتى يخرج من يدك.
ومن هذا المعنى اخذ الشاعر قوله:
انت للمال اذا امسكته/ فاذا انفقته فالمال ُ لك ْ
وقال بعض الاعراب: مالُك ان لم يكن لك، كنت له.
وتروي قصص العرب عن منح وعطايا الخلفاء والامراء باعتبارها جزءاً من المسؤولية التي يتحملها الخليفة او الامير اضافة الى مظاهر الجود والكرم والبذخ، فقد اشرف عمر بن هبيرة من قصر الامارة في الكوفة، واذا باعرابي يرقص بعيره، فقال لحاجبه: لا تحجبه، فلما مثل بين يديه، قال له عمر: ما خطبك يا اعرابي؟ فقال:
اصلحك الله قلَّ ما بيدي/ فما اطيق العيال َ اذ كثروا
الحَّ دهري عليَّ كلكله/ فارسلوني اليك وانتظروا
فاخذت عمر الاريحية، واهتز وقال: ارسلوك اليّض وانتظروا، اذاً والله لا تجلس حتى ترجع اليهم غانماً، وأمر له بألف دينار ورده من ساعته الى اهله.
حدّث ابو العيناء قال: رأيتُ ابن عائشة نصف النهار في يوم شديد الحر راكباً على حمار وبين يديه غلامان يعدوان. فقلتُ له: أفي هذا الوقت؟ قال نعم وانشد:
حقوقٌ لاخوانٍ اريد قضاءها/ كأني ما لم اقضهنَّ مريضُ
وكان الفقهاء والعلماء والواعظون يترفعون عن اخذ الاموال رغم كثرتها وتراكمها في بيوت المال وفي قصور الخلافة، فقد ذكر اسحاق بن الفضي قال: بينا انا على باب المنصور، اذ اتى عمرو بن عبيد، فنزل عن حماره، وجلس. فخرج اليه الربيع، فقال له: قم ابا عثمان، بابي انت وامي. فلما دخل على المنصور امر ان تفرش له لبود بقربه واجلسه اليه بعدما سلّم. ثم قال: يا ابا عثمان، عظني بموعظة. فوعظه بمواعظ، فلما اراد النهوض امر له المنصور بعشرة آلاف. قال: لا حاجة لي فيها. فقال المنصور: والله لتأخذنها. قال: لا والله لا آخذها. وكان المهدي حاضرا، فقال: يحلف أمير المؤمنين وتحلف انت؟ فالتفت عمرو الى ابي جعفر، فقال: من هذا الفتى؟ قال: هذا محمد ابني، وهو المهدي، وهو ولي عهدي. قال عمرو: اما والله لقد البسته لباسا ما هو من لباس الابرار، ولقد اسميته باسم ما استحقه عملا، ولقد مهدت له امراً امتع ما يكون به اشغل ما يكون عنه. ثم اقبل نحو المهدي فقال: نعم يا ابن اخي، اذا حلف ابوك احنثه عمك، لان اباك اقوى على الكفارات من عمك. فقال له المنصور: هل لك من حاجة يا ابا عثمان؟ قال: نعم. قال: ما هي؟ قال: ان لا تبعث اليّ حتى آتيك. قال: اذا لا نلتقي. قال: هي حاجتي. فمضى واتبعه المنصور بطرفه، ثم قال:
كلكم يمشي رويد/ كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
وذكر المدائني ان الحجاج لم يكن يظهر منه لجلسائه بشاشة ولا سماحة في الخلق الا يوم دخلت عليه ليلى الاخيلية فقال لها: بلغني انك مررت بقبر توبة بن الحمير وعدلت عنه، فوالله ما وفيت له، ولو كان هو بمكانك وانت بمكانه ما عدل عنك. قالت: اصلح الله الامير، لي عذر. قال: وما هو؟ قالت: سمعته وهو يقول:
ولو ان ليلى الاخيلية سلمت/ عليّ وفوقي جندل وصفائحُ
لسلمت تسليم البشاشة او زقا/ اليها صدى من جانب القبر صائح ُ
وكانت معي نسوة قد سمعن قوله فكرهتُ ان اكذبه، فاستحسن الحجاجُ قولها وقضى حوائجها وانبسط في محادثتها، فلم تر منه بشاشة واريحية داخلته مثل ذلك اليوم. وكان قد قال لحاجبه: اقطع لسانها، فلم يفهم الحاجب سوى ظاهر الكلام فقادها فقالت له: ويلك، انما يأمرك بقطع لساني بالمال او الابل، فرجع الحاجب يسأل الحجاج فامره ان يعطيها مائة ولم يفهم مائة ماذا فاراد ان يعطيها مائة شاة فقالت له: الامير اكرم ان يعطي مأئة شاة، اجعلها ابلا فسمع الحجاج كلامها فقال: اقطع لسانها بمائة من الابل.
وذكر ان هشام بن عبد الملك كان بخيلاً. وقد اهدى له رجل طائرين، فاعجب بهما، فقال الرجل: جائزتي يا امير المؤمنين. قال: ويلك، وما جائزة طائرين؟ قال له: ما شئت. قال له: خذ احدهما. فقصد الرجل الى احسنهما فأخذه، فقال له هشام: وتختار ايضا؟ قال: نعم والله اختار. فقال: دعه، وامر له بدريهمات.
ودخل هشام بستانا له ومعه رجال من حاشيته فطافوا به، وبه من كل الثمار، فجعلوا يأكلون ويقولون: بارك الله لامير المؤمنين، فقال: وكيف يبارك لي فيه وانتم تأكلونه؟ ثم قال: ادع لي قيّمه، فدعا به وقال له: اقلع شجره واغرس فيه زيتونا حتى لا يأكل منه احد شيئاً.
وكتب سليمان بن هشام الى ابيه: ان بغلتي قد عجزت، فان رأى امير المؤمنين ان يأمر لي بدابة. فكتب اليه ابوه هشام: قد فهم امير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظن ان ذلك من قلة تعاهدك لعلفها، وضياع العلف، فقم عليها بنفسك، ولعل امير المؤمنين يرى رأيه في حملانك. ونظر هشام الى رجل على برذون طخارى، فقال له: من اين لك هذا قال: حملني عليه الجنيد بن عبدالرحمن. قال: وقد كثرت الطخارية حتى صار يركبها العامة؟ لقد مات عبد الملك بن مروان وفي مربطه برذون واحد طخارى، فتنافس فيه ولده، حتى ظن من فاته ان الخلافة فاتته. قال الرجل فحسدني اياه.
حدّث سفيان بن عُيَيْنة، قال: دعانا الرشيد، فدخلنا عليه ودخل الفضيل بن عياض مقنعا رأسه بردائه، فقال لي: يا سفيان، ايهم امير المؤمنين؟ فقلت: هذا، واومأت الى الرشيد. فقال له: انت يا حسن الوجه، الذي امر هذه الامة في يدك وعنقك؟ لقد تقلدت امرا عظيما. فبكى الرشيد، ثم اتي كل رجل منا ببدرة، فكلٌّ قبلها الا الفضيل، فقال له الرشيد: يا ابا علي، ان لم تستحلها فاعطها ذا دين واشبع بها جائعا واكس بها عريانا، فاستعفاه منها، فلما خرجنا قلت له: يا ابا علي، اخطأت، الا اخذتها وصرفتها في ابواب البر. فاخذ بلحيتي ثم قال: يا ابا محمد، انت فقيه البلد وتغلط مثل هذا الغلط؟ لو طابت لأولئك لطابت لي.
قيل ان ابا العتاهية كان، مع نقده للشعر، كثير السقط. وروي انه لقي محمد بن مناذر، فمازحه وضاحكه، ثم انه دخل على الرشيد فقال: يا امير المؤمنين هذا شاعر البصرة، يقول قصيدة في كل سنة، وانا اقول في السنة مائتي قصيدة، فادخله الرشيد اليه فقال: ما هذا الذي يقول ابو العتاهية؟ فقال محمد بن مناذر: يا امير المؤمنين لو كنت اقول كما يقول:
الا يا عتبة الساعه/ اموت الساعة الساعه
كنت اقول كثيرا، ولكني اقول:
ان عبدالحميد يوم تولى/ هدَّ ركنا ما كان بالمهدودِ
ما درى نعشه ولا حاملوهُ/ ما على النعشِ من عفافٍ وجودِ
فاعجب الرشيدُ بقوله، وامر له بعشرة آلاف درهم، فكاد ابو العتاهية يموت غيظا.
وبنى بعض اكابر البصرة دارا، وكان في جواره بيت لعجوز يساوي عشرين ديناراً، وكان محتاجا اليه في توسيع الدار فبذل لها فيه مائتي دينار فلم تبعه، فقيل لها ان القاضي يحجر عليك بسفهك حيث ضيعت مائتي دينار لما يساوي عشرين ديناراً، قالت: لم لا يحجز على من يشتري بمائتين ما يساوي عشرين ديناراً، فافحمت القاضي ومن معه جميعا، وترك البيت في يدها حتى ماتت.
قيل ان معن بن زائدة دخل على المنصور فقال له: يا معن، تعطي مروان بن ابي حفصة مائة الف على قوله:
معنُ بن ُ زائدة الذي زادت به/ شرفا على شرفٍ بنو شيبان ِ
فقال معن: كلا، وانما اعطيته على قوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلنا/ بالسيفِ دون َ خليفة ِ الرحمن ِ
فمنعت حوزتَه وكنتَ وقىً له/ من كلِّ وقعِ مهند وسنان ِ
فقال المنصور: احسنت يا معن، وامر له بالجوائز
مدح رجل هشام بن عبد الملك، وكان هشام بخيلاً ولم يشأ ان يجيزه بمال، فقال له: يا هذا انه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه. فقال الرجل: ما مدحتك، ولكن ذكّرتك نعم الله عليك لتجدد لذلك شرا. فقال هشام: هذا احسن من المدح، فوصله وأكرمه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.