بعد مرور نحو نصف قرن على ولادة حرفة الطباعة الأوروبية على يد حنا غوتنبرغ أول من استخدم حروفاً مسبوكة من الرصاص في ترتيب وصف الكتب في أواسط القرن الخامس عشر كانت السلطنة العثمانية في عهد بايزيد الثاني قد أجازت استعمال الطباعة وحصرها باليهود دون غيرهم من رعايا السلطنة، تسهيلاً لنشر ديانتهم الموسوية. حينذاك كانت المطابع الأوروبية الحديثة النشأة قد أبدت اهتماماً ملحوظاً باللغات الشرقية عموماً والعبرية خصوصاً، فعمد البعض منها الى طباعة أول كتاب التوراة باللغة العبرية عام 1455 في مطبعة فراري في ايطاليا. ومنذ ذلك الحين توالت المطبوعات اليهودية تباعاً في مطابع سونسينو من أعمال دوقية ميلانو، والبندقية وباريس وغيرها من المطابع الأوروبية. وكان من جراء الاحتكاك التاريخي المتواصل بين الدول الأوروبية والسلطنة العثمانية أن انتقل فن الطباعة اليها لينتشر أولاً في الآستانة وينتقل فيما بعد الى سائر الولايات في المشرق العربي. وتجدر الإشارة الى أن انتشار الطباعة في السلطنة لم يكن أمراً ميسوراً حينذاك لاعتبارين رئيسيين غير منفصلين، أولهما أن السلطنة كانت تعتمد النسخ بديلاً عن الطباعة، وكان النساخون يشكلون طبقة حرفية لا يستهان بشأنها ونفوذها لدى الأوساط المحافظة إذ كانوا يتخذون من دور العبادة مراكز رئيسية لعملهم ما يشير الى ارتباط وثيق بين عملية النسخ والمفاهيم الدينية المقدسة. وعلاوة على ذلك كان سلاطين بني عثمان لا ينظرون الى فن الطباعة بعين الرضى والاطمئنان خشية أن يتسلل أصحاب الغايات الى تحريف الكتب الدينية أو تشويهها أو تزويرها. وهذا ما حمل السلطان بايزيد الثاني عام 1485 "الى ابراز حكم عال نهى فيه رعاياه من اتخاذ المطبوعات" كما جدد ابنه السلطان سليم الأول عام 1515 حظراً مماثلاً. إلا أن هذا المنع قد استثنى اليهود من بين سائر الرعايا العثمانيين لشدة ما كان لهم من تأثير ونفوذ وحظوة في أوساط المقربين من الباب العالي والصدارة العظمى. وهكذا استطاع اليهود أن يستحصلوا على اذن رسمي يجيز لهم ممارسة الطباعة باللغة العبرانية دون سواها من اللغات الأخرى، في حين أن الحظر على العثمانيين أنفسهم ظل سارياً عليهم حتى العام 1827 وذلك بعد صراع طويل بين المتنورين ورجال الدين المحافظين. ويعزو بعض الباحثين هذا الأمر، الذي يبدو مستغرباً. الى شدة التغلغل التجاري وقوة المال اليهودي واستخدامه كوسيلة لاختراق بعض المواقع المؤثرة في الحكم والسلطنة. وعلى أي حال حقق اليهود من خلال قطاع الطباعة أول اختراق ثقافي ديني أسس فيما بعد لاختراقات سياسية بلغت مداها في "جمعية الاتحاد والترقي" التي تسلمت الحكم عام 1908. وكان أول من سعى بإنشاء مطبعة في الآستانة رجل يهودي اسمه اسحق جرسون في محاولة للاستغناء عن المخطوطات التي كانت سائدة حينذاك. ويرتقي تاريخ ظهور أول مطبعة يهودية في دار السعادة الى أواخر القرن الخامس عشر، وخروج أول كتاب منها عام 1490 وهو عبارة عن ملخص تاريخ اليهود ليوسيفوس كربون. بعد ذلك الحين توالت طباعة العديد من الكتب العبرانية التي تركز معظمها على المؤلفات الدينية وشروح الأسفار الإلهية القديمة العهد. ومن أهم الكتب التي ظهرت في تلك الفترة: "شرح سفر استير" لإسحق جرسون عام 1495، و"رأس الإيمان" لإسحق ايربنيل عام 1505، و"مجموع أمثال قديمة" بالشعر لإسحق صهلة عام 1506، و"التلمود الصغير" لإسحق بن يعقوب الفاسي عام 1509، و"مختصر الشرائع" لإسحق بن كربيل عام 1510، و"معجم ناتان بن يحنيل" عام 1512، و"معجم داود كمخي" عام 1513، و"مجموع شروح للربانيين" على أسفار التوراة عام 1514، وفضلاً عن هذه الشروح المفردة لكل سفر من الأسفار الإلهية ظهر تباعاً شروحات أخرى لسفر أيوب عام 1545، و"الجامعة" لصموئيل أربول عام 1586 و"المزامير" لإبراهيم حانيم عام 1750. ومن أهم مطبوعات القسطنطينية التي نالت شهرة واسعة كتاب "التوراة" عام 1551 مرفقاً مع عدة شروحات ذات لغات مختلفة إنما بحرف عبري. وعلاوة على هذه الكتب الدينية نشر اليهود سلسلة من الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية واللغوية والطبية من أهمها: "ديوان ابن أزرع" و"مقامات يهوذا الخريري" عام 1540، وعلى غرار مقامات الحريري و"ديوان ابن جبرول" عام 1545، وهو فيلسوف عبري توفي عام 1070، و"ديوان عمانويل بن سلمان" عام 1535، وكتاب "مقوم اللسان في اللغة العبرية" لحبيب موسى عام 1508. وقد استمر ظهور الكتب اليهودية على أنواعها حتى أواخر القرن الثامن عشر. والجدير بالذكر أن الطباعة العبرانية لم تنحصر في الآستانة وحسب وإنما نقل اليهود هذا الفن أيضاً الى المدن الأخرى لا سيما سالونيك التي كانت تقيم فيها جالية يهودية كبيرة وطبعت فيها عدة كتب علمية ودينية منها "خطب ابن صموئيل" عام 1520 و"مجموع في الطب" عام 1596. الطباعة التركية والعربية تأخرت الطباعة التركية والعربية في السلطنة العثمانية نحو ثلاثة قرون عن مثيلتها اليهودية، أي حتى العقد الثاني من القرن الثامن عشر في عهد السلطان أحمد الثالث. ويشير تاريخ جودت باشا لمترجمه عبدالقادر الدنا ص 81 - 84 الى الظروف التي رافقت ولادة المطابع التركية والعربية ويرجعها الى البعثات العلمية التي كانت توفدها السلطات العثمانية الى الدول الأوروبية واطلاع أفرادها حينذاك على فنون الطباعة الغربية واعجابهم بها ونقل انطباعاتهم ومشاهداتهم الى المسؤولين العثمانيين الذين أبدوا بدورهم ترحيباً بالفكرة وتشجيعاً لها. وكان صاحب المشروع محمد أفندي حلبي وابنه سعيد اللذين كانا في عداد البعثات العلمية الى باريس، قد استحصلا من الباب العالي على فرمان ومن شيخ الإسلام عبدالله أفندي على فتوى دينية عام 1129ه الموافق عام 1712م، يرخصان بطباعة كل الكتب وبكل اللغات ما عدا كتب التفسير والحديث والكلام. واستعان سعيد أفندي بإبراهيم أغا كان رجلاً نصرانياً أشهر إسلامه فيما بعد وكان صاحب خبرة وتجربة أوروبيتين في فن الطباعة لتجهيز أول مطبعة عنيت بطباعة الحرف العربي في بلاد المشرق. وأول كتاب طبع فيها "صحاح الجوهري" عام 1827، ثم توالى بعد ذلك ظهور الكتب المطبوعة على اختلاف موضوعاتها ومعظمها باللغة التركية ومن أهمها: "تحفة الكبار في أسفار البحار" لمؤلفه الحاج خليفة، و"تاريخ تيمورلنك" لابن عربشاه و"تاريخ مصر" و"تاريخ حرب الأفغان" عام 1730 و"تاريخ حديقة الخلفاء" لنظمي زاده عام 1730 وكتاب "الأبرة المغناطيسية" لإبراهيم أفندي. ويشير جودت باشا الى أن الطباعة التركية جاءت في ذلك العهد رديئة وكثيرة الأخطاء ما جعلها تتوقف عن العمل فترة من الزمن الى أن استأنفت نشاطها عام 1783 بعد أن أضيفت اليها أحدث الآلات والحروف والمهرة الطباعين، نظراً لما كان يتوخاه بعض المصلحين أو المتنورين العثمانيين من دور كبير للطباعة في تنوير الأذهان وانتشار المعرفة وتقليص دائرة الأمية. رفع الحظر عن الكتب الدينية لقد كان المتنورون العثمانيون وراء كل حركة إصلاح ديني أو ثقافي أو سياسي في السلطنة العثمانية واستطاع هؤلاء في تلك الفترة أن يقنعوا أولي الأمر في رفع الحظر عن الكتب الدينية وحصلوا على فرمان مشفوع بفتوى شرعية يجيزان طباعة كل الكتب من دون استثناء دينية كانت أو غير دينية. يقول جودت باشا أحد أبرز الإصلاحيين آنذاك "لم ير علماء أصول الفقه من بأس بطبع الكتب الشرعية وان كان فيه أعمال تخل بتعظيمها وذلك استناداً على القضية المسلمة عندهم وهي الأمور بمقاصدها، فإنهم بناء على هذه القضية أجازوا تجليد القرآن الكريم خوفاً من شتات أوراقه وضياعها مع أن في التجليد أموراً تخل بالتعظيم أكثر من الطبع مثل الرض بالمطارق والتضييق بالملازم. وللمقاصد الخيرية في تكثير الكتب سمحوا بطبعها تعميماً لمنافع الطلبة فاستفاد من ذلك جميع أصحاب الفنون"، ومنذ ذلك الوقت بدأت المطبوعات العربية بالظهور في الآستانة ومن أشهرها: "تحرير أصول الحكيم أقليدس" لنصير الدين الطوسي عام 1801 و"إظهار الأسرار" للبركوي عام 1805 و"تهذيب المنطق" عام 1819 و"شرح الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية" عام 1822 و"ملتقى الأبحر" لإبراهيم الحلبي عام 1842 و"مفتاح التفاسير" لمحمد شريف الحافظ عام 1873 و"شمائل النبي" للشيخ محمد الترمذي عام 1848 و"تاريخ أبي الفدا" عام 1870. ومعظم هذه الكتب طبعت في المطبعة السلطانية. لا أن أبرز مطابع الآستانة كانت مطبعة الجوانب التي أخرجت مجموعات من أمهات الكتب العربية لا سيما القديمة منها مثل "الجاسوس على القاموس" و"ديوان البحتري" و"ديوان الطغراني" و"ديوان العباس بن الأحنف" و"نقد الشعر" لقدامة بن جعفر ورسائل الخوارزمي والهمداني والموازنة بين أبي تمام والبحتري ومقامات السيوطي وأمثال العرب ودرة الغواص للحريري ونزهة الطرف في علم الصرف للميداني وأدب الدنيا والدين للماوردي ورسائل ابن سينا والثعالبي والمقريزي وتمتاز كلها بطباعة أنيقة وحروف مشرقة وتجليد فني متقن ومزركش بالرسوم المذهبة. وفي نهاية البحث يرى البعض في احراز اليهود قصب السبق عن غيرهم، بمن فيه الأتراك، واستئثارهم بقطاع الطباعة ردحاً طويلاً من الزمن، أخطر مظاهر التغلغل الثقافي والديني والمالي في جسم السلطنة لدرجة تجرؤهم على الطلب من السلطان عبدالحميد الثاني وتقديم الإغراءات له مقابل تعاطفه مع المشروع الصهيوني الذي يعد لفلسطين حينذاك. ولا غرو إذا ما كان رفض عبدالحميد باعثاً على انضمام يهود السلطنة الى "جمعية الاتحاد والترقي" التي لعبوا من خلالها دوراً فاعلاً في اسقاط عبدالحميد في انقلاب عام 1908 ووصول "الاتحاديين" الى الحكم الذين أذاقوا العرب مر الإهانة والإذلال والإرهاب والبطش والتنكيل.