قال أبي، قبل خروجه من البيت مهدداً: "اذا عدت هذا اليوم ووجدته هنا فسأقطّعه أمامكم". ولم يكن أي منا بحاجة الى قدر اضافي من الفطنة، ليدرك مَنْ المقصود، هناك في قفصه، كان الببغاء واقفاً على ارجوحته، مغلفاً بصمت مهيب، غير مدرك لما ينتظره هذا المساء. ولغضب أبي على "سنبل" أسبابه الوجيهة، اذ ان ما سمعه منه، كان كافياً لسلخ جلده فوراً. لكن طبيعة ابي الهادئة تتعارض مع ردود الفعل المباشرة، خصوصاً امام ابنائه، وهذا ما دفعه الى كظم غيظه طيلة ساعات الليل، وعند حلول الصباح، اخبرنا بقراره القطعي، ولم يتح لنا حاجباه المرتفعان ونبرة صوته المتوعدة اية فرصة للاحتجاج او التوسل. لا بد ان ندماً شديداً اصاب ابي على اقتناء ذلك الببغاء، كان الثمن الرخيص الذي طلبه البائع، والجمال الراقي الذي يتمتع به ذلك الطير في قفصه، عنصري اغراء لاتمام صفقة الشراء سريعاً، من دون الاستفسار عن مالكي "سنبل" السابقين، ولم يقرأ في صمته وكبريائه الارستقراطيين شيئاً سوى البراءة والتهذيب العاليين. عليَّ ان اضيف شيئاً آخر غاية في الاهمية، على رغم عنايتي الشديدة بسنبل وانشغالي الدائم بإطعامه طيلة فترة بقائه بيننا، لكنه لم يواجهني الا بالتجاهل. مقابل ذلك، كان يحتفظ بكل الحبّ لاخويّ الكبيرين، معهما كانت أساريره تتفتح بشكل غريب، فاذا بذلك الأخرس الأبدي امام الآخرين يتحول الى مهرّج محترف، فيمضي سارداً لهما، وبصوت منخفض، نكاتاً وحكايات بذيئة، لا اول لها ولا آخر. احياناً، كان اخواي اللذان ينامان في الغرفة نفسها، يغلقان الباب وراءهما، فينطلق الببغاء في تقديم دروسه اليهما، فاتحاً اعينهما على اسرار الكبار وحقائق الاشياء المختفية وراء المظاهر الخادعة. وكنت انا من خلال ثقب الباب أراقب الثلاثة السعداء، فاختنق بالغضب والوحدة. سمعت اخي الأكبر يخبر أحد اصدقائه عن اصل ببغائنا، الذي قضى صباه في احد مواخير البصرة، ولم افهم ما تعنيه تلك الكلمة آنذاك. دقّت الساعة الرابعة، فتسرّب الخوف في عروقي. انه وقت وصول ابي الى البيت. كان الببغاء غارقاً في احلام يقظته. اقتربتُ منه ببطء وللمرة الاولى لمحته يبتسم لي، ويوشوش في اذني: "انا احبك اكثر من الجميع". فحرضتني كلماته على الانشداد اليه اكثر فأكثر. استطعت ان اشاهد في مخيلتي رأسه الاخضر منفصلاً عن جسمه الازرق، حيث تسربلت قوادمه ببقع الدم البشعة. وفي لحظة رنين جرس الباب الخارجي، مددت يدي كلتيهما لأمسك برقبته بقوة، فأمضي صوب البراد، هناك في زاوية مهملة داخل خزان الثلج، دفعت بالببغاء، ولم يتح له الفراغ الصغير والمفاجأة بردّ فعل احمق. وحينما قابلت ابي وجهاً لوجه كان البراد مغلقاً ولا اثر باق من ريشه على الارضية يوشي بمخبئه. في الصباح وقبل ان تستيقظ امي، أخرجت "سنبل" من البراد، ووضعته في حقيبتي المدرسية، وكم ساعدني جسمه المتخشّب في انجاز تلك المهمة، اذ ظل ساكناً طيلة فترة تغيير ملابسي وتناول الفطور مع الآخرين. على وجه ابي كان بإمكاني تلمّس علائم الراحة لاختفاء الببغاء من قفصه. وكأن حلّ مشكلة ما يقود الى خلق مشكلة جديدة. في طريقي الى المدرسة، ادركت ما ينتظرني اليوم مع الاستاذ زياد إن هو اكتشف ما اخبئه في حقيبتي. كان معلّم التاريخ والجغرافيا مثلاً أعلى يحتذىه المعلمون الآخرون في فرض النظام داخل غرف الدرس، بالنسبة الينا، نحن التلاميذ، كان ممثلاً للرعب النقي، الذي لا يحضر الا في كوابيسنا. حينما دقّ جرس الحصة الثالثة، تسلل الشحوب الى وجوهنا، وفي رؤوسنا الصغيرة راح السؤال نفسه يتكرر: اي عصا سيجلبها اليوم؟ في غرفة استراحة المعلمين، يحتفظ الاستاذ زياد بخزانة خاصة لعصيه. وحالما يقرر ان وقت العقاب قد حان، سيرسل احد التلاميذ لجلب واحدة، ذات رقم محدد. لكل عقاب عصا خاصة: الضوضاء التي تسبق وصول المعلّم تعالج بعصا التوت، الفشل في الوصول الى درجة النجاح الدنيا يعالج بعصا الخيزران، وللمناسبات الاخرى هناك عصي الرمان والتفاح والبرتقال. كان الدرس حول الثورة الفرنسية: "من هو قائد اليعاقبة؟" "روبسبير"، "احسنت"، "مَنْ هو الملك الذي اعدمته الثورة؟" "لويس الرابع عشر"، "لويس السادس عشر… لن تُكافأ الا بعصا واحدة". "ما اسم زوجة الملك؟" "ماري انطوانيت"، "ممتاز"، "وما اسم آلة الاعدام التي ابتكرتها الثورة؟" "المقصلة"، "افتح عينيك حينما تقرأ ثانية، والا… ما هو اسم الآلة؟" فرددنا مبتهجين، تحت وطأة مزاج المعلّم الرائق: "المقصلة"، وكخراف نسيت للحظة ما ينتظرها، رحنا نجيب، بحمية، على كل سؤال يطرحه المعلم من دون انتظار اختياره لاحدنا. فجأة ارتفع صوته بارداً، محشرجاً: "سكوت"، وحينما التفتنا اليه، طالعنا ذلك الغضب الموشّى بابتسامة مرضية، كانت يده تحرّك العصا في الهواء، وعيناه تراقبان، من وقت الى آخر، نهايتها الحرة. قبض الخوف على انفاسنا، وحلّ صمت قاتل داخل الحجرة، بانتظار معجزة تنقذنا من بطش استاذنا الرهيب. فجأة ارتفع صوت المعلّم، لكنه هذه المرّة من جوف طاولتي، حيث تركن محفظتي: "سكوت". تلفّت الكل بحثاً عن المصدر، لكن عيني المعلّم الراصدتين لحركاتهم، بعثت القشعريرة في اجسادهم، وجعلت ابصارهم مثبتة في اللوحة، انشدّت اذرعهم فوق صدورهم الضئيلة، تعبيراً عن الخضوع المطلق له. ردد الاستاذ زياد ثانية: "سكوت"، فترجّع صداه لثلاث مرات، من محفظتي المفتوحة، انفجر التلاميذ بضحكة هستيرية، مختنقة. انطلق الببغاء بترديد اسئلة معلّمنا وملاحظاته، دافعاً إيانا الى حالة جنون مشتركة. للمرة الاولى نكتشف كم كان صوت الآخر مضحكاً، كانت كلماته تخرج مختنقة عبر انفه. لا اتذكّر كم استغرق وقت انغمارنا في ذلك العبث المجنون، كنا خلاله نتنقل بين ضفتي الخوف والمرح الصاخب بسلاسة، كان بإمكاننا مشاهدة التغيرات على وجه المعلّم، اذ راحت عضلاته تتحرك من دون ضابط، لتحفزنا اكثر فأكثر على الانفلات من قبضته. تسلل "سنبل" اخيراً من جبّه، لينطلق محلقاً في فراغ الحجرة، رفع الاستاذ زياد يديه هلعاً، ومضى في ترديد تعاويذ غريبة. اذكر بعد هروب معلّمنا، كيف استغلّ الببغاء تلك الفسحة القصيرة من الوقت، ليقرأ علينا كل الدروس التي كان يرددها خفية في اذني أخويّ. وحال اكمال خطابه، تسلل من النافذة ليندفع بالطيران الجذل، مختفياً، تدريجاً في فضاء ذلك النهار المشعشع بالضوء. حضرني شريط الاحداث، كلحظة برق عابرة، في مدينة تفصلها عن مدرستي مسافات شاسعة. كنت ماشياً بين طاولات سوق الاحد المفتوح، حيث فرش الناس فوقها اشياءهم القديمة، كان رذاذ المطر يتدفق ناعماً في الهواء الدافئ، ليمنح المكان بعداً خرافياً رائقاً: شبان وشابات يبيعون ما تركه الآباء وراءهم من اشياء بالية، كهول وشيوخ يعرضون اسطوانات والبومات وملابس رياضية للعابرين، وسط ذلك المناخ الحالم، المحمّل بالذكريات، جاءني صوت الببغاء ليوقظ تلك اللحظة النائية من سباتها. اقتربتُ من الحشد الواقف امام طاولة. تسربت الى سمعي تلك الدروس التي لم يفقه الحاضرون منها شيئاً، بل هي بدت لهم ضجيجاً مذبذباً، يثيره ذلك الببغاء. اخترقت بصعوبة حاجز الجمهور، مسكوناً بلهفة حارقة للقاء، لكنني لم المح في القفص سوى ببغاء ابيض اللون، اصغر من "سنبل" بكثير. انتابني آنذاك شك عديم الملامح، شك بماذا؟ بلحظة الحاضر المعاشة ام بتلك اللحظة المقبلة من اعماق نجم منطفئ؟