روسيا: زيارة بلينكن للصين تهدف لتمزيق العلاقات بين موسكو وبكين    الأخضر السعودي 18 عاماً يخسر من مالي    الإبراهيم: تشجيع الابتكار وتطوير رأس المال البشري يسرعان النمو الاقتصادي    الإبراهيم: إستراتيجياتنا تحدث نقلة اقتصادية هيكلية    «الرابطة» تُدين استمرار الاحتلال ارتكاب جرائم الحرب في غزة    النفط يستقر فوق 88 دولاراً.. وأسهم أمريكا تتراجع    الراقي في اختبار مدرسة الوسطى.. الوحدة والفيحاء يواجهان الحزم والطائي    ميندي وهندي والنابت مهددون بالغياب عن الأهلي    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    أدوات الفكر في القرآن    4 نصائح طبية عند استعمال كريم الوقاية من الشمس    الملك يغادر المستشفى بعد استكمال فحوصات روتينية    بيع "لوحة الآنسة ليسر" للرسام كليمت بمبلغ 32 مليون يورو    الأوبرا قنطرة إبداع    الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج طلبة «كلية الأعمال» في جامعة الفيصل    في ذكرى انطلاقة الرؤية.. مسيرة طموحة لوطن عظيم    "5 ضوابط" جديدة بمحمية "الإمام تركي"    اللهيبي تُطلق ملتقى «نافس وشركاء النجاح»    اللي فاهمين الشُّهرة غلط !    لا تستعجلوا على الأول الابتدائي    سوناك وشولتس يتعهّدان دعم أوكرانيا "طالما استغرق الأمر" (تحديث)    مساعد رئيس مجلس الشورى تلتقي بوفد من كبار مساعدي ومستشاري أعضاء الكونغرس الأمريكي    مين السبب في الحب ؟!    مشاهدات مليارية !    أهلاً بالأربعين..    هلاليون هزموا الزعيم    النفع الصوري    حياكة الذهب    حزب الله يطلق عشرات الصواريخ على إسرائيل ردّاً على مقتل مدنيين    إجراء أول عملية استبدال ركبة عبر «اليوم الواحد»    زراعة 2130 شجرةً في طريق الملك فهد بالخبراء    166 مليار ريال سوق الاتصالات والتقنية بالسعودية    مسبح يبتلع عروساً ليلة زفافها    "إكس" تطلق تطبيقاً للتلفاز الذكي    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    "أم التنانين" يزور نظامنا الشمسي    اكتشاف بكتيريا قاتلة بمحطة الفضاء الدولية    «سدايا» تطور مهارات قيادات 8 جهات حكومية    961 مليونا ً لمستفيدي «سكني»    أمير الشرقية: القيادة تولي العلم والتنمية البشرية رعاية خاصة    تحت رعاية وزير الداخلية.. "أمن المنشآت" تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    دورة تأهيلية ل138 مستفيداً ومستفيدةً من برنامج الإعداد للابتعاث    مقصد للرحالة والمؤرخين على مرِّ العصور.. سدوس.. علامة تاريخية في جزيرة العرب    رسالة فنية    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    الإسباني "خوسيلو" على رادار أندية الدوري السعودي    عيدية كرة القدم    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    جاسم أحمد الجاسم عضو اتحاد القدم السابق ل"البلاد": الهلال يغرد خارج السرب.. وحديث المجالس وضع" هجر" في مهب الريح    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    بعضها يربك نتائج تحاليل الدم.. مختصون يحذرون من التناول العشوائي للمكملات والفيتامينات    تجاهلت عضة كلب فماتت بعد شهرين    قطاع القحمة الصحي يُنظّم فعالية "الأسبوع العالمي للتحصينات"    أمير عسير يواسي أسرة آل جفشر    أمير حائل يرفع الشكر والامتنان للقيادة على منح متضرري «طابة» تعويضات السكن    المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته ال 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14    أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جورج البهجوري يروي سيرته : تداخل الرسم والسرد
نشر في الحياة يوم 07 - 04 - 1998

يتميز جورج البهجوري فناناً تشكيلياً بقدرته الخاطفة على اقتناص الملامح ودمغها في خطوط سريعة شديدة التعبير والخصوصية. لا يكاد يجلس معك - إن كنت تثير لديه اهتماماً من نوع ما - حتى يتناول ورقة بيضاء ويحيلها في ثوانٍ إلى رسم بالغ الذكاء والدقة، ترى فيه شيئاً مميزاً لك لم تكتشفه بوضوح من قبل. المهم هو هذا الانخطاف الذي يعتمد على الاقتصاد في الخطوط، والتقاط ما هو جوهري في شخصية موضوعه.
لا بد أن سنواته الطويلة، بمقدار ما يتدلى أمامه من شعر رأسه وذقنه، أتاحت له فرصة التمكن العضوي من هذه الممارسة الإبداعية الخلاقة بسلاسة مذهلة. لكنه عندما يغير وسيطه التعبيري، عندما يستخدم الكلمات بدلاً من الخطوط في سيرته التي نشرها أخيراً بعنوان "أيقونة فلتس" يسرف علينا وعلى نفسه في الوصف المطول. إنه يريد أن يمارس التقنية ذاتها دون أن يمتلك خفة اليد اللغوية التي تمكن منها تشكيلياً. عندئذ لا تستطيع مخيلتنا أن تترجمها إلى صورة ذهنية بالسرعة ذاتها. ذلك لأن للكلمات إيقاعها الخاص، وللجمل وزنها المميز. وحركة الذهن في ترجمتها لا تتبع القوانين البصرية في إدراك الخطوط. يتعين على الذاكرة أن تعيد تجسيد الجمل وتتمثلها في بنية تتدرج من الجزء إلى الكل. لا يتاح لك أن تخطف النظر إليها مرة واحدة دون تركيب متواشج. طريقة الإدراك البصري للصورة المرسومة تختلف جذرياً عن طريقة تشكيل صورة متخيلة من عبارات لغوية. صعوبة الطابع التركيبي الغيبي تجعل توظيف اللغة لصناعة المتخيل مخالفة لسهولة الإدراك الكلي الجشطالتي للصور البصرية. المهم أننا نشعر أن الاقتصاد والسرعة يعوزان البهجوري في لوحاته الوصفية. وهنا تتجلى لنا مفارقة واضحة، سيد الخطوط لا يبدو دائماً سيداً للكلمات. إنه يعرف ذلك بتواضع مذهل، ويفيد كثيراً من ملاحظات أصدقائه. سأكتفي بالإشارة إلى موقف واحد يتجلى فيه هذا البطء التصويري المرهق، مع أنه يقوم به من الذاكرة المتخيلة طبعاً. يصف أم صوت الرواية، أم فلتس الذي يفترض أنه الكاتب، وهي تتهيأ للقاء أبيه عند الخطوبة في صفحة طويلة يرد فيها مثلاً: "في الوسط عينان محددتان أفقيتان وحدقتان كستنائتيان واضحتان، يحرسهما على الجبهة خطان متقنان من الأسود وكأنهما ينسابان مع خطى الأنف. أنف موضوع بعناية وسط كتلة الرأس، ليس دقيقاً رفيعاً ولا عريضاً لكنه معتدل متوسط في كبرياء ونبل. خطا الأنف الرأسيان متصلان بخطى الحاجبين فوق العينين وسط ساحة الوجه الأقرب إلى المستطيل. أهم ما في كتلة الرأس هو الجزء البارز من عظمتي الجمجمة تحت العينين حيث يبدو تجويف ما قبل الصدغين المرتفعين نوعاً ما. الذقن البارزة مستديرة ناعمة كأنها قاعدة الوجه أو نهاية المستطيل الذي يصبح بيضاوياً". ومهما استطعنا أن نترجم بعض الإشارات الهندسية والتشريحية والثقافية ستظل قدرتنا على تشكيل هذا "البورتريه" محدودة للغاية، ربما لأننا لا نملك مثل أصابع جورج، أو لأن لغة الوصف التشكيلي مخالفة للغة القص في نوعية التفاصيل والتشبيهات والايحاءات، عندئذ يطغى الرسم على السرد ويحتاج لتوازن جديد. وربما كان السبب في هذا الخلل يعود إلى أن هذه السطور الوصفية ليست مسندة إلى وعي أحد الأصوات الساكنة في العمل، فالراوي هنا ينتحل موقفاً ملفقاً، فهو لا يمكن أن يكون قد رآها قبل الكتابة هكذا، وعريسها/ أب المستقيل لم يكن قد شاهدها حتى اللحظة حتى يسرف في نقل أوصافها، فتبقى هذه السطور معلقة في فضاء الرواية لا تعتمد على الذاكرة التي تحتضنها أو الوعي الذي تنبثق فيه.
على العكس من ذلك سنجد مشاهد أخرى تنفرج في الصفحات التالية لتجسد جماليات المكان من المنظور الإنساني. يكفي أن نقرأ تصوير الرواية لأول نزهة بين هذين العروسين في معابد الأقصر: "فبعد شارع الإرسالية وشارع السوق بدا أمامها نهر النيل ساكناً كأنه خط هائل من الذهب وقد انعكس عليه نور الشمس. يحكي أساطير رحلات المصريين القدماء وموكب الملكة حتشبسوت ورحلة البحث في الجنوب عن حجر البازلت لتقديمه هدية إلى رمسيس، إبرة الحجر، المسلة التي اشتهرت بعد ذلك. بقي معبد الأقصر في حضن جامع قديم يطل على النيل مسجد أبي الحجاج لم يكن يعرف عندما دعاها لدخول المعبد أن جداراً من النحت البارز يحكي قصة الإله من إله النسل، خجلت العروس رحمة لرؤيتها لهذا الجدار، ولكنها شعرت برعشة تسري في عروقها وهي تتأمل صورته الحجرية البارزة وقد انتصب عضوه بزاوية حادة، نزهة النيل في ذلك اليوم عند المعبد والونتر بالاس لا تنساها". هنا يختلف إيقاع اللغة الروائية عن المشهد الوصفي الجداري السابق، فهو ألا يتموقع متذبذبا بين الأصوات، مرة عند عبدالمسيح أفندي، ومرة يختروق رعشات عروق رحمة ليشف عن خجلها وبهجة جسدها معاً، كما يشف عن خواطر عريسها الذي فوجئ بنحت الجدار. نعرف من الذي رسم هذه الخطوط التصويرية والشعورية من سياق القص بشكل يتلاءم مع الموقف ويعمق الوعي به. نشهد ذلك بسرعة معقولة لا تتلكأ كثيراً عند تفاصيل تقنية لا يقدر عليها سوى زوار المتاحف المدربين. سرعة تتيح لنا فرصة الكشف عن اللمحة المادية ودلالتها النفسية في جملة واحدة، بروز النحت يأتي مصاحباً لدهشة العريش وخجل العروس معاً، هذه الحياكة تجعل اللغة قادرة على المحاكاة بطريقتها الخاصة المفعمة بالشعرية.
الفانتازيا والحقيقة الكونية:
لكننا لا نستطيع أن نتصور فناناً كبيراً مثل جورج البهجوري يبدأ الكتابة بتقاليدها العريقة من نقطة الصفر. إنه يرتكز على محصلة وثيرة من الخبرة الفنية بالحياة والاختراق الشجاع لسطح الواقع. هذه الجسارة لا يمكن ان تفارقه لمجرد التغيير في وسيط الإبداع، الكلمة بدلاً من الخط. من هنا نجده يسمح لنفسه بتلقائية عجيبة بلون من الفانتازيا التي تعود عليها الرسامون في كل العصور، لا في عصر العبث واللا معقول فحسب. فإن يتحول الإنسان إلى طائر- في حياة سابقة على تشكله البشري- فهذا من مقتضيات صناعة الرسم، ينقلها الفنان الى سيرته الروائية، بلسانه الشخصي وهو يرصد فلتس- ذي الكف اليمنى المنقبضة دائماً على رسم غائر يمثل أيقونة الطفل والعذراء - أليس في ذلك نبوءة بحتمية المصير الإبداعي للرسام والروح الكامنة خلفه؟، هذه الروح التي تجسد أنبل وأعذب ما في عطر المحبة المسيحية المنتثر على كل معالم الحياة المصرية في منظوره والمضمخ لترابها الزعفراني.
يرى الطفل في ذكرياته الطرية عندما هاجر أبوه من جنوب الوادي الى منوف الدلتا ليعمل مدرساً أول للغة الانكليزية في مدرسة الإرسالية الانكليزية بها، يرى كم كان موزعاً بين محبته الفطرية لأولياء نعمته وشعور الوطن الطاغي عليه في نهاية المطاف، ثم يرى نفسه ضحية صراع من نوع آخر، صراع بين حياته السابقة كطائر مغرد على الأشجار وحياته الآن كإنسان له رداء لحمي مختلف وتكوين جسمي آخر. إنه - على حد تعبيره - يهرش بين الحين والآخر في نهاية كتفيه كأنهما آثار جناحي طائر. يصرخ ربما لأنه فقد جناحيه وكأنه تحسس ريشه فلم يجده. وفكر في الطيران فوجد جسده ثقيلاً، إلا أن الحنجرة هي المشترك الوحيد. متى يستطيع فلتس الصغير أن يغني بدلاً من هذا الصراخ والبكاء؟ يتذكر حياته السابقة مع أصدقائه السابقين من الطيور، كلها طيور سعيدة، يقول: حتى عندما كنا نطير معاً في جماعات ونلتقي مصادفة بقمة كوم من القمح الهائل في حقل أو في بنك التسليف لم نكن نفهم أننا ممنوعون من التقاط حبات القمح، حتى هذا المنظر المضحك الكبير الذي يضعونه على جوانب الحقول ويسمونه "خيال المآتة"، لم يكن يخيفنا على الإطلاق، وقد كان الأفضل للإنسان أن يحترم رغبتنا في التقاط ما نريده من أجل الحياة، لسنا سوى أصدقاء"، لقد اشتغلت آلية التخييل عند الفنان. بطلاقة لا تتأتى للكتّاب الجدد بهذه الفصاحة، أسعفه حسه الفني المعتق وخبرته الطويلة، بمد الخطوط وتداخل الأشكال وتكوين الرؤى الفانتازيا. أسعفته هذه القدرة الجمالية الفذة على إعادة تشكيل الحياة بمحو الفروق بين الأجناس الفنية والحيوية.
إلا أن هذه الرؤية ليست نزوة عبثية، ستتحول بعد قليل إلى تقنية سردية محكمة، يتمكن بها الراوي من تقمص شخصية الأم عندما ترحل مبكرة إلى السماء، إثر حادثة عادية تافهة أثناء اجازتها الصيفية في القاهرة. سقط ابنها الأكبر جميل وهي تحتضنه من فوق السرير، فزعت عليه وقامت ملهوفة بحركة عنيفة أدت إلى التواء في حبلها السري الذي كان يربط الجنين في بطنها. لم يستطع أطباء مستشفى الارسالية في العاصمة إنقاذها. أعطاها الراوي حق الحديث لتحكي: "الجميع حولي... ملائكة وسط نور السماء الساقط خلف رأسي، ورائحة بخار بنفسجي يعطر المكان. يضغطون بأصابعهم على أجزاء من جسمي، أصبحت أشعر كأنني أطير، حملت قلبي معي وهو ينتفض مثلي، أصبح لي جناحا ايزيس. عدت إلى الأقصر، إلى الجبل الغربي. حمل لي حورس قرص الشمس فأدفأتني وأعادت الى قلبي المرتعش حرارة التدفق بالحياة. حياتي الجديدة جميلة، إني أطير، أحتضن شعاعاً صغيراً، أتبع القرص الهائل وملايين مثلي حولي، كل واحد منهم يحتضن شعاع الشمس الصغير. أراكم من بعيد، أحرسكم".
ومع ما يكتنف هذه اللحظة من إبهام لا تقوى الموروثات على استجلائه بوضوح اليقين، فإن الخبرة العلمية والروحية للإنسان بالموت لم تستطع حتى الآن تصويره بأكثر من ذلك، إنه تحليق في الأعالي وارتفاع محسوس عن الأرض. وإذا كانت الحضارة المصرية القديمة قد أنفقت كل طاقتها في تمثيل الحياة الآخرة وضمان الخلود فيها فإن الإنسان المعاصر لا يملك إلا أنه يستشعر نفس التوق للارتفاع والتحليق الدائمين. لم يعد الطيران إذن مجرد فانتازيا خيالية تراءت عبثياً لكاتب امتص رحيق المذاهب الفنية اللا معقولة في خطوطه التشكيلية وتعود على توظيفها، بل أصبح مخرجاً بعيد الغور في الروح لتفسير هذا الغياب الموجع الذي يمني به الصبي عندما يفقد أحد أبويه ويجد جذعه مكشوفاً عارياً تجاه الضوء والريح. لابد لروحه من سند، وليست هذه التصورات النورانية بعبقها الديني أو عطرها الميثولوجي سوى المعنى الذي يملأ فراغ الأسئلة ويشبع التخيل. ولأن البهجوري منقوع في الثقافة المصرية بكل طبقاتها الجيولوجية، من الفرعونية الى البيزنطية والقبطية والإسلامية فهو بالغ النفاذ إلى هذا الشعاع الشمسي الذي تدور به الأرواح، حيث تتجسد مرة في فراشة محلقة أو طائر رفاف، لكنها دائماً هناك تعمر الكون بحضورها الأبدي الجميل.
يتتبع البهجوري اللحظات الحاسمة في حياة صبيه "فلتس" من أطرافها الدقيقة، عندما تنبت لديه مشاعر الجنس الصبيانية وهو لايزال في السادس من عمره. كيف تستيقظ غرائزه في حضن قريباته الناضجات وهن يحملنه على اكتافهن فيستشعر لذة غريبة في دبق عرقهن الانثوي الفواح. لكنه يصنع ذلك عبر تشكيله للوحات باذخة، تجسد متخيله وتتركه منجزاً جاهزاً للعرض ... انه وهو الرسام الطليعي يمارس لوناً من السرد الذي يعتمد على صوت الراوي المحيط بكل شيء علماً، وهو سرد ما قبل الحداثة الأدبية على وجه التحديد. هناك اكثر من مشكلة تواجه البهجوري في سيرته الروائية، كلها تشف عن طفولة خبرته بالكتابة بالرغم من قدراته الفنية الفذة. فالرسم باللغة كما أسلفنا له ايقاعاته الخاصة في الانتقالات المفاجئة وعمليات الاستباق المحسوبة، اذ بينما يتحدث الراوي عن الفترة الحرجة في التطلع الصبياني المراهق لحالات الجنس العائلية. يحكي قصة العرس المزدوج وكيفية تزيين العروس وخدها يتقد بحمرة الشهوة. ثم يعطف ليقص طريقة زوجة العم كمالات في ممارساتها ... "كمالات حامل تنتظر ولادة الابن المفكر للعائلة، ماجد برأسه الكبير بالنسبة لجسمه، عندما ينهي تعليمه في الرياضة البحتة يهاجر الى كندا ويصبح شريكاً في اختراع عالمي هو التليفون المحمول، هذه القفزة الى المستقبل لنصف قرن من الزمان على الأقل ليس لها اي منطق ولا ضرورة، فهي تأتي عقب مقدمة لا تربطها اية علاقة بالابن النابغة او اختراعه الجديد. ليست المسألة في منطق السرد خاضعة لذكر الحقائق الخارجية مهما كانت مصداقيتها وطبيعتها، إنما هي خلق السياق الملائم والإطار المناسب لإيرادها، جعلها تقع ضمن منظومة الأحداث المتماسكة المتناغمة. تعود السيرة بعد هذا الاستباق العشوائي لمتابعة مشاعر الصبي فلتس وخيالاته الصبيانية. ... وأحسب ان رسوم البهجوري تخلو من القفزات العشوائية في التركيب ما ينبغي ان تخلو كتاباته من الاستطرادات المفاجئة.
على ان البهجوري كثيراً ما يبدع في استباقاته السردية، سأكتفي بنموذج بليغ يتمثل في ملاحظته التشكيلية دائما لكف "أليس" العروس التي ذهب مع أبيه لرؤيتها: "اقتربت العروس أليس لتسلم على العريس الأب الذي عبر بزيارته وبصراحة وجهه عن طلبه للزواج. ارتعشت اليدان. اليد البضة الناعمة في كفها الكبير الممتلىء وتلاقت الاصابع الطويلة الملساء بالأصابع المرتعشة النحيلة المتعبة من تصحيح كراريس التلاميذ فلتس يراقب ويضحك في صمت. لقد جاء ليخطب لأبيه عروساً، كف أليس ضخمة بضة، استعملت كثيرا بعد ذلك في ضرب الاولاد خاصة فلتس بعد الزواج"، هذا الاستباق يجيء تماما في سياقه، فالسرد يتم بأثر رجعي ليحكي زمن الطفولة، ومن الطبيعي أن تطوي الذاكرة الزمن وهي تجمع العناصر المتجانسة، انه الوعي الذي يسهم هذا الاستباق في تكثيفه بنجاح واتقان، بما يجعل السرد يستمر في طريقه المكتوب برشاقة وجاذبية. لكن مادمنا نشير الى بعض العثرات الخفيفة في هذا العمل الجميل فعلينا ان ننتبه الى طول عهد الراوي بالأحداث والفاصل الزمني العريض الفارق بين لحظة الكتابة وموضوع السرد، ما يؤدي احيانا الى خلخلة التتابع التاريخي وانفلات انتظامه. مثلا تنتقل بؤرة التذكر عند الوالد عبدالمسيح افندي، فيأخذ في الفصل قبل الأخير في استرجاع صورتين، يصنعهما زمنيا ضمن إطار واحد متعاصر، إحداهما لجمال عبدالناصر وهو يرفع العلم المصري على قناة السويس بكبرياء، والأخرى الموازية لها لطه حسين الذي يشبه عبدالمسيح افندي- فيما عدا النظارة السوداء - باعتباره الوزير الجديد للتعليم العالي الذي جعل العلم مثل الماء والهواء، ولا شك ان ذاكرة الراوي قد خانته في الجمع بين الصورتين، فطه حسين كان وزيراً للمعارف في حكومة الوفد قبل الثورة، وعبدالناصر أمّم القناة بعد ذلك بسبع سنوات عام 1956 ولا مجال للجمع بين المشهدين في وعي عبدالمسيح أفندي ولا ابنه فلتس في عملية استرجاع تخالف التاريخ. وأعتقد ان مجرد مراجعة الصياغة اللغوية كفيلة بإزالة هذا اللبس.
ألوان النسيج المتقاطعة:
يصور البهجوري في هذه السيرة الروائية بدقة بالغة ألوان النسيج الاجتماعي القبطي والإسلامي عبر عدد من التقاطعات والتوازيات المرهفة. فالتعايش اليومي المتمازج والحركة الوطنية المتماوجة تصهر هذه الألوان، لكن الطقوس الدينية المميزة تبلور الشخصية المستقلة لكل منهما، وتأتي عمليات احتدام العلاقات الخارجية لتبرز الفوارق احيانا، فالأب يعمل في مدارس الإرسالية الانكليزية وزوج العمة يرتبط بالمقربين من السراي، لكن الأولاد يكتشفون الطريق الوطني الثالث عندما يتقدون حماساً بين رفاقهم ويمتزجون بالمظاهرات الوطنية، حيث نشهد جنبا الى جنب اشخاصاً حقيقيين بأسمائهم الفعلية، غالي شكري مع مكرم محمد احمد في شوارع مدينة منوف. ويتضح الاتساق الارادي في الوان الطيف بشكل نموذجي في ملاحظة احد الاقرباء الحكماء عندما يقول للعم اسحق:
- انت عاجبني يا اسحق بتسمي اسماء وسط. علشان الاولاد يبقى لهم مستقبل وما يبقاش عندهم مشاكل في الدرجات والتعيينات. البنت معلهش سميتها "ماري" زي اسم العذراء، لكن الولد سميته ماجد واللي بعده ممدوح. دي اسماء عصرية جميلة ومشتركة. انا سميت ناجي والولد التاني حسميه سعد زغلول، ويرد اسحق:
- "ده اسم ممدوح يشبه محمود، نفس الحروف لو غيرت مكانها"
هنا يبدو دهاء ابن الأقلية في التغلب على صعوبات المواطنة بتوظيف حسه الاجتماعي الماكر في شيء من تمييع الحدود الفارقة بين الأسماء وتحديث العلاقة بين الأطراف بطريقة عصرية. لكن حاسية الراوي لهذا الموقف تكشف عن وعي اعمق بالظاهرة خاصة عندما يختار عنوان سيرته بشكل متعمد، انه موسوم بالطبيعة وفخور بهذا الوسم الواعد المتمثل في الايقونة، فهو لا يشير به الى شخصية الطفل فحسب، بل ويتنبأ بمصيره الابداعي كذلك، ومهما كان نصيب هذه الأيقونة من الواقع او الخيال فإن الدلالة المنبثقة عنها في الاعتزاز بهذا الانتماء الاصيل تعارض خط عمه اسحق في محو الفروق الظاهرة لخطوط النسيج الاجتماعي في ألوانها العديدة والمتسقة.
بيد أن المفارقة الحاسمة في هذه السيرة هي التي تقوم بين الذاتي والموضوعي وما ينوشهما من عوالم، فالمفروض أن السيرة الذاتية تعتمد بميثاقها الشهير على إعادة الماضي من منظور الذات. دور التخيل فيها يقتصر على إعادة تشكيل الحياة كما يتوهمها. ومساحة الأنا تكاد تغطي فضاء الإبداع كله وتضمن تماسك أطرافه واكتمال بنيته. لكن ما يحاوله البهجوري هنا يقع في منطقة مغايرة، اذ يلتقط عناصر موضوعية لشخوص هاربين من ذاكرته ويتتبع شذرات من عوالمهم بطريقة عشوائية ومتكدسة. يبعث بعضهم ويخفي آخرين، يتسلل الى دواخلهم في لحظات معينة ثم يتركهم في عماء العدم وظلمة التجاهل بقية الوقت. انه لا يقوم بتخليقهم كنماذج إبداعية متخيلة بحيث يصبح مسؤولا عن مصائرهم وأقدارهم وعارفاً بمشاعرهم وأسرارهم كما يقضي بذلك القص بمختلف اشكاله، بل يمد يده - كيفما شاء - ليخرج من جرابه بعض الشخوص الماثلة هناك في التاريخ العائلي، دون ان يكون مسؤولا عن اكتمالها، فالسرد الذاتي يبيح له هذا الاختيار العشوائي مادام فلتس موجودا في وسطهم. والنتيجة التي تترتب على ذلك هي بروز هذه المفارقة، فالذاتي يريد ان يكون موضوعياً خارجياً يتقمص ضمير أفراد كثيرين ويتسلل الى دواخل شخوص متعددين دون ان يستنفذ تكوينهم او يستقضي تاريخهم، والموضوعي يتسم بالتشتت والانخطاف طبقا لمزاج الراوي واختياراته اللامعة في ذاكرته. يتراوح العمل بين السيرة والرواية فلا هو متجذر في تقنيات السيرة الذاتية منذ سطوره الاولى التي يطمح فيها لتمثيل جسد الطفل فيما قبل الولادة ولا هو مقبل على احتضان العوالم الخارجية بشروطها والنفاذ الى تشكيلها واعتماد اكمالها. ولأن هذه السيرة تقف عند مرحلة الصبا في حياة فلتس/ جورج فإن الأجزاء التالية لها لابد ان تختار بؤرة منظورها، فإما ان تمضي في صياغة سيرة ذاتية حقيقية لحكاية قصة الفن ومعايشته الحميمة وتجاربه المتتالية، وإما ان تقف عند حدود المزج بين الذاتي والموضوعي لاقتناص الحلم بالعالم وتمثيله دون اشباع او اكتمال، لكن تظل الخاتمة المؤطرة لهذا الجزء وهي تلك الرؤية لخطوط كفه اليمنى وهي تتحول الى رسم ايقونة الطفل والعذراء هي التي تضفي عليه دلالته الأخيرة في الاعتزاز باتساق النسيج النفسي والاجتماعي للإنسان المبدع فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.