حين صرح بشار الأسد في صحيفة «وول ستريت» بأن ما حصل في تونس ومصر كان بسبب وجود مستنقعات راكدة مليئة بالجراثيم والبكتيريا فيهما، كان يظن، حينها، أن الشعب السوري طُوّع واستمرأ الخنوع للذل. وأن هذا الشعب قد انطلت عليه حكايات، مثل: الصمود والتصدي، والممانعة، والوحدة والحرية، والاشتراكية. بعد مرور أسبوع على بداية الثورة، ومقتل ما لا يقل عن 100 مدني بريء، خطب في «مجلس التهريج» السوري ضاحكاً بسذاجة مفرطة لفتت أنظار العالم كله، وشبه الشعب السوري بأنهم أطفال يريدون الحليب. وقال: إن الإعلام الخارجي كله يكذب. وقام أحد المصفقين والمطبلين وقال له: إن العالم العربي صغير عليك، وأنت تستحق أن تحكم العالم. وفي اليوم الثاني أمر موظفي الدولة وطلاب الجامعات والمدارس بالخروج في مظاهرة تأييد له. وأخذت عدسات القنوات الفضائية السورية تتجول من محافظة إلى محافظة، في محاولة ساذجة لإقناع العالم في الخارج بأن له مؤيدين كُثر، كما كان يفعل صدام، وما زال يفعل ذلك صديقه القذافي. بعد استشهاد 300 شهيد في الأسبوع الثاني، أصدر مرسوماً جمهورياً بتغيير الوزارة، وعيّن وزير الزارعة، الذي تسبب في جفاف نصف سورية، رئيساً للوزراء. كما عيّن بعض وزراء الديكور. ثم جمعهم وأعطاهم أوراقاً وأقلاماً ليكتبوا درس إملاء. وقال: «إن إيقاف العمل بقانون الطوارئ يحتاج إلى دراسة، ولجان، وموافقة مجلس الشعب». والشعب السوري، المغلوب على أمره، يعلم أن الدستور تغير خلال خمس دقائق ليصبح على مقاسه. في الأسبوع الرابع أصدر مرسوماً يقضي برفع حالة الطوارئ، وفي الوقت نفسه، أرسل الجيش وقوات الأمن ليعيث في البلاد قتلاً وتدميراً وتنكيلاً، فوصل عدد الشهداء إلى 650 شهيداً، والمعتلون أكثر من عشرة آلاف مواطن. وفي الوقت نفسه كان إعلام النظام يصرح أن الجيش دخل إلى المدن وقتل المندسين والسلفيين الذين يدعمهم سعد الحريري وبندر بن سلطان وعبد الحليم خدام، وذلك بناء على طلب الشعب، الذي طالب النظام بحمايته. فحاصر المدن وقطع الماء والكهرباء، وقتل الأبرياء من الشباب الأطفال والنساء والعجزة بوحشية همجية؛ ثم دفنهم في مقابر جماعية. وإمعانا في الاستهزاء بشعبه، في أنه ليس مكترثا بأرواحهم وبمطالبهم، أصدر في الأسبوع الخامس مرسوما يقضي بالعفو عمن تأخر في دفع المخالفات المترتبة عليه من الماء والكهرباء قبل عام 2008م. حين ازدادت الضغوط الدولية عليه للسماح بالمظاهرات السلمية، أصدر المرسوم التشريعي رقم 54 القاضي بحق التظاهر السلمي للمواطنين، والذي تضمن تشكيل لجنة متخصصة في وزارة الداخلية للنظر في طلبات الترخيص والإجراءات التي يتعين على الجهة الداعية القيام بها للحصول على الموافقة. وضع في هذا المرسوم شروطاً تعجيزية من 15 مادة، بقصد الاستهزاء بشعبه. ومن هذه الشروط: تحديد الجهات التي يحق لها الدعوة إلى التظاهر من الأحزاب السياسية، والمنظمات الشعبية، والنقابات المهنية، وهو يعلم أن هذه الجهات تابعة لنظامه ومطبلة له. وأن تكون التظاهرات نهاراً، وألا يقل عمر المشارك فيها عن 18 عاماً، وأن لا يتم تنظيمها أيام الأعياد الوطنية والدينية، مع عدم السماح باستغلال دور العبادة، والجامعات، والمدارس، والمناطق العسكرية، وأن تكون اللجنة المنظمة للتظاهرة السلمية مكونة من رئيس، وعدد من الأعضاء يتولون إدارتها وتنظيمها. واشترط المرسوم أن يتضمن الطلب المقدم لتنظيم التظاهرة بيانات تشمل اسم الجهة الداعية لتنظيمها، وأسماء وتواقيع رئيس وأعضاء اللجنة المنظمة، وأرقامهم الوطنية، وأرقام هواتفهم الثابتة، وتحديد مكان إقامتهم، لإبلاغهم قرار اللجنة. واشترط المرسوم أيضا أن تحدد الغاية من التظاهرة، أي أهدافها، وأسبابها، ومكانها، وخط سيرها، ومكان انتهائها، وزمانها باليوم والساعة والدقيقة، والمدة التي تستغرقها التظاهرة، إضافة إلى المطالب والشعارات التي سترفع خلالها، على أن يرفق الطلب بتعهد من رئيس وأعضاء اللجنة المنظمة لها في حال حدث أي شيء مخالف للتعليمات. وأن من حق الدولة إلغاء الترخيص، في حال ظهور ما يعكر صفو المواطنين العاديين، أن تلجأ قوات الأمن إلى تفريقها بالعنف. وحين خرجت بعض المظاهرات السلمية ظهر أبواق نظامه في الإعلام ليقولوا: إن من حق الدولة أن تقتل من يخرج بمظاهرة سلمية بدون تصريح رسمي. وضربوا مثلاً بالمظاهرات المصرح لها، التي خرجت مؤيدة له، وتوجهت إلى سفارتي روسيا والصين لشكرهما على موقفهما الإيجابي من النظام، وإلى السفارة الفرنسية استنكاراً لموقفها السلبي. أي بمعنى أن النظام كان يريد أن يقدم بعض المواطنين طلبا للتظاهر، يحددون فيه هدفهم بإسقاط النظام، وأسماءهم، وأماكن سكنهم، وأرقام هواتفهم، وأين سيتظاهرون بالساعة والدقيقة؛ لتخفيف العبء على الأمن في اعتقالهم. بعد مضي شهرين على الاحتجاجات، وبعد استشهاد أكثر من 1100 شهيد، بدأ النظام يعترف بأن هناك، ربما، رأياً آخر في سورية، بعد أن كان أبواقه ينكرون وجود معارضة. وكانوا في كل يوم يقولون: «خلاص خلصت». وربما كان أحد أسباب هذا الاعتراف عرض المحطات الفضائية العربية والعالمية، بلا استثناء، لجثة الطفل حمزة الخطيب ذي الثلاثة عشر ربيعاً، بعد أن مُثّل بجثته بعد قتله. وفجع العالم كله بتلك المناظر البشعة التي تدل على وحشية النظام السوري. وإمعانا من بشار الأسد في الاستهزاء بشعبه، استقبل والد الطفل، وأجبره على القول بأنه يحبه، ومؤيد له، ووعده بتشكيل لجنة لمعاقبة المتسبب في قتله. ولكنه في اليوم التالي أرسل جنوده إلى الرستن ليقتل أربعة أطفال، كان من بينهم الطفلة هاجر الخطيب التي كانت في طريقها إلى مدرستها. الأسبوع الماضي، واستكمالاً لاستهزائه بالشعب، تفتقت قريحة بشار الأسد عن أنه سيحاور المعارضين، فشكل لجنة لحوار المعارضة، مؤلفة من بعض وزرائه وضباط مخابراته. وحين لم يجد أولئك من يحاورونه؛ لأن أغلبهم إما في السجون أو في الخارج. أصدر عفواً عامّاً عن السياسيين، ولكنه في الوقت نفسه أضاف إليهم أصحاب الجرائم الكبيرة من القتلة «الشبيحة» الموالين له، لسببين: أولهما، لكي يفسح مكاناً للمعتقلين الجدد. والآخر، بسبب نقص عدد «الشبيحة» من المجرمين الذين يرهبون المتظاهرين. وبالفعل فقد تضاعف عدد الشهداء في الأسبوع المنصرم، كما تضاعف عدد المعتقلين. وهكذا يستمر استهزاء بشار الأسد بشعبه. * باحث في الشؤون الإسلامية.