ربما يظن البعض أن الجمهور السعودي بلغ أشد حالات التعصب، وقد يردد كثيرون أن ذلك يتطلب التدخل والعلاج، ولكن ثمة وقائع تجعل المشهد الرياضي غير مُرْضٍ لعشاق الكرة المحلية أو من يدورون في فلكها من مختلف أطياف المجتمع. وعلى رغم ذلك، فإن الملاعب السعودية لم تشهد أي حالات فوضى شبيهة بما شهدته ملاعب عربية أو حتى أوروبية، إذ تحولت بعض الميادين إلى أنهار من الدماء، ففي الوقت الذي شهدت فيه مصر حادثة بورسعيد، وتخلدت ذكرى «كارثة هيسل» في أوروبا الأكثر عراقة في كرة القدم، خلت الملاعب السعودية تماماً من أي حالات شبيهة، وربما كانت هذه الحالات التي يشاهدها الأكاديميون أو أطياف المجتمع من خارج الإطار الكروي هي المدعاة لقلقهم من أن تتطور حالات التعصب، إلا أن أعلى مراحل الشغب في السعودية تمثلت في «هتافات عنصرية» في مباريات عدة، ورمي القوارير في مباريات أخرى. أما الاشتباك، فإن حدث فإنه لا يخرج عن ساحات «مواقع التواصل الاجتماعي» فقط، وفي هذا يتحدث الباحث في العلوم السلوكية والاجتماعية محمد الحاجي، ويقرأ سلوك الجماهير محلياً، مشدداً على أن الجماهير السعودية، على رغم ما يقال عنها في التعصب، فإنها أكثر هدوءاً ووعياً مما يحدث في إنكلترا والأرجنتين وغيرهما. * كيف تفسّر حالة التعصب الرياضي ونشأته النفسية والاجتماعية؟ - الرياضة موضوع اجتماعي أكثر من مجرد كونها تنافساً بين فريقين، التعصب لفريقٍ ما يغذي إحساس الانتماء الذي يتوقُ له الإنسان دوماً، فنحن كائنات اجتماعية لا نعيش في معزل عن الجماعة، ولهذا منذ بداية وعينا للحياة نبدأ في تقسيم الناس وتشكيل جماعات من حولنا، هذه الجماعات من الممكن أن تكون واسعة جداً كالأديان، أو ضيقة كأبناء الأسرة الواحدة، من هنا تأتي جماعة أخرى وهي الفرق الرياضية، نندمج في عضوية هذه الجماعة - غالباً تحت تأثير العائلة، وبعد انتمائنا، تبدأ مشاعر الولاء للجماعة تتعمق أكثر وأكثر، وذلك عبر تجميل كل ما هو في صالح الفريق، وتقبيح كل ما يخص الفرق الأخرى، وهو ما يُعرف بالانحياز التأكيدي، هذا الانحياز النفسي والانتقائي يجعلنا نعيش في سلام مع اختياراتنا، ويطمئننا أننا في «الطريق الصحيح»، هنا ينشأ التعصب، لأنك لا تدافع فقط عن فريق كرة قدم، بل عن هويتك وانتمائك وتقاليد العائلة وذكريات الطفولة وكل هذه المشاعر الدفينة. * أن يتحول الفريق الذي يشجعه الفرد إلى أسلوب حياة وذو أهمية أعلى من الأسرة والمناسبات الاجتماعية والدراسية والوظيفية، هل هذا طبيعي؟ - ما يميز الرياضة عن هذه الأنشطة هو وجود عامل الإثارة والانغماس في الحدث والانشغال بالتنبؤات، فلا تعلم أي سيناريو قد يحدث، وهذا ما يجعل التشجيع متعة حقيقية، بحسب إحدى الدراسات، فإن مستوى هرمون التستسرون لدى المشجعين أثناء مشاهدة المباراة ينافس مستواه لدى اللاعبين داخل الملعب، لربما بسبب الأعصاب المرآتية التي تجعل الإنسان يحاكي ما يراه، كما أن الرياضة تسمح للفرد بالتنفيس عن كل مشاعره الساخطة والحميمية في بيئة آمنة من دون محاسبة وفي وسط جمهور يفهمه ويعيش الأحاسيس ذاتها، نحن نتعصّب في التشجيع ليس حباً للفريق ونتائجه فقط، بل بحثاً وطمعاً في التجربة الاجتماعية والطقوس التي ترافق هذه المباريات، هنا تتجلى آثار التشجيع النفسية، فهناك علاقة وطيدة بين انتصار الفريق والشعور بالرضا الذاتي والثقة بالنفس وتحسن المزاج - والعكس صحيح عندما يخسر الفريق، بعد أن يضع المشجع كل هذه الأعباء على نفسه، من الطبيعي أن يشعر بأن الفريق أصبح جزءاً منه ومن ممتلكاته، حالة تشبه الاستثمار، ومن هنا يأتي الهوس والتوجس والمتابعة الدقيقة، التشجيع كما نرى عملية نفسية وعملة اجتماعية. * هل ساهمت الثورة التكنلوجية ووسائل التواصل في ارتفاع حدة تعلق المشجع بفريقه؟ - ساهمت شبكات التواصل في خلق مجتمع يتجاوز حدود الوقت والزمان، هذه المنصّات سمحت للمشجعين بالانغماس أكثر وأكثر في تجربة التشجيع، من دعم وتنفيس ومشاركة وتنظيم الفعاليات كمجالس الأندية واللقاءات الدورية، مما يميز الحقبة الرقمية كذلك هو إمكانية التواصل مع إداريي ولاعبي الفريق، هذه الإمكانية سمحت للفرد بأن يكون أكثر من مجرد مشجع للفريق، بل مشارك ومساهم في مجريات الحدث وصناعة القرار، هذا كله يساهم في ارتفاع مشاعر الانتماء وحِدَّة التعلق. * هل أصبح التعصب الرياضي محليًا حالة تحتاج التدخل والعلاج أم أن ما يحدث ما زال في إطار المعقول؟ - هناك تضخيم ومبالغة في تشخيص التعصب الرياضي في مجتمعنا، فالوضع لدينا لم يبلغ عُشر ما بلغته المجتمعات الأخرى، كما يحدث في الأرجنتين وإنكلترا مثلاً، أعتقد أن الثورة المعلوماتية ساهمت في خلق هذا الانطباع الخاطئ، نتيجة تداول بعض المقاطع والتغريدات، لا ننسى أن الرياضة لدينا جزء من المنظومة الحكومية وتحت سيطرتها التامة، هذا يساعد في تحجيم الانفلات والهمجية، ما يحدث من سجال جماهيري وإعلامي هو في نطاق المعقول ومن طبيعة الرياضة. * هناك آراء تقترح أن تدني مستوى الترفيه في أوقات سابقة كان سببًا في زيادة التعصب الرياضي، هل توافق على ذلك؟ - مستوى الترفيه لا يرفع حالة التعصب، ونستطيع الاستدلال عبر النظر إلى المجتمعات الأخرى، الدول الأوروبية والأميركية تزخر بفرص الترفيه، ولكنها من أشد المجتمعات تعصّباً وتعلّقاً بالرياضة، فالحاجة إلى الانتماء والولاء وأثر الانحيازات الإدراكية هي التي تنشئ التعصب، وما الرياضة إلا قناة لتمرير هذه المشاعر، الرياضة لا تصنع مشاعرك، بل تكشفها في العلن، فلو اختفت الرياضة، سيصمم البشر حقولاً أخرى يتصارعون فيها. * ينفق أحيانًا المشجع مبالغ طائلة وربما تفوق مقدرته لمواكبة تحركات فريقه إلكترونيًا وجغرافيًا وتلفزيونيًا وتجاريًا، كيف تعلق على ذلك؟ - في علم التسويق الرياضي، هناك استراتيجيات معيّنة تزيد من تعلّق الجمهور بفريقه، أغلب الفرق الآن لديها برامج عضوية تجعل المشجع جزءاً من الكيان نفسه، هذه البرامج تضفي علاقة إنسانية وشخصية بين الفريق والمشجع، مثل تهاني يوم الميلاد، أو دعوات خاصة للقاء اللاعبين، أو خصومات تجارية، كما أن الرياضة سلعة ثقافية يشتريها المشجع لإشهار هويته والافتخار بها، فالقميص مثلاً ليس مجرد قطعة ملابس، بل يحمل رمزية ثقافية للمشجع، الفريد في الرياضة أنها سلعة يصنعها ويستهلكها الجمهور في آنٍ واحد، فعندما يحضر الجمهور لمساندة فريقه، هو يدفع لصناعة الحدث، وهو هناك ليستهلكه، لا نغفل أيضاً جانب المسؤولية التي يشعر بها المشجع تجاه فريقه، ومن صور ذلك المساهمة المادية، بالطبع هذا يفسّر السلوك، ولا يبرر الإسراف أو التبذير وغير ذلك. * برأيك، ما مدى تفعيل المسؤولية الاجتماعية في الأندية الرياضية؟ - الأندية في موضع متفوق مقارنة بالمنظمات الأخرى من حيث الشعبية وقوة التأثير، هذا يستوجب أن تستغل الأندية هذه القوة الاجتماعية لصنع التغيير والمبادرة، هذا ينطبق على اللاعبين كذلك، وخصوصاً أنهم يُعتبرون قدوة لشريحة واسعة من الشباب، وبما أن الأندية المحلية تتلقى دعماً حكومياً، فلن يكون من المستهجن أن يتم تكليفها بالمساهمة المجتمعية، وتتم جدولة ذلك رسمياً مع كل موسم، أعتقد أن هيئة الرياضة تستطيع تفعيل دور الأندية عبر برنامج للمكافآت والحوافز، كأن يُعفى النادي من بعض الرسوم والمخالفات إذا حقق حصة معينة من البرامج المجتمعية.