نعم إن الطبع يغلب التطبع، وقد تصل الرغبة لدى بعض الصحافيين أو الإعلاميين في نفاق شخص أو جهة إلى حد الإدمان، وحتى لو جاءت الفرصة وتغيرت الظروف السياسية وأصبح المجتمع أكثر تقبلاً لإعلام بلا نفاق، فإن بعضهم يبحث عن أجندة أو مصلحة «يخدّم» عليها أو شخص في موقع مسؤولية ل «تلميعه» حتى لو لم يكن يريد أو يرفض التلميع. وليس سراً أن «التلميع» في العهد البائد كان يجري طوال الوقت وعبر كل الوسائل من أشخاص وجدوا أنفسهم بعد الثورة وقد فقدوا أبرز مهاراتهم حينما غاب من لمَّعُوهم فسعوا إلى ركوب الثورة لكن تم كشفهم فبدأوا في ممارسة التلميع مجدداً عله يكون الطريق لاستعادة المكانة أو النفوذ أو الوجود. كان الخبر الأكثر نشراً في الصحف المصرية أمس بعنوان «شرف يأكل الكبسة» بعدما احتفت برامج الفضائيات المصرية مساء أول من أمس بالموضوع نفسه وبثته بتقارير مصورة تظهر رئيس الحكومة المصرية وهو يجلس وسط مواطني شبه جزيرة سيناء ويأكل معهم بيديه وجبتهم الشهيرة «الكبسة». قبلها بيومين كان خبر آخر نال اهتمام غالبية الصحف المصرية ونشرته في صفحاتها الأولى مفاده أن الدكتور عصام شرف أصر على أن يسدد فوراً غرامة مالية بعدما ارتكب ابنه مخالفة مرورية. والأسبوع الماضي حفلت صحف ومجلات مصرية بصورة تجمع رئيس الحكومة وعائلته مع عدد من المواطنين التقطت لهم داخل مطعم للفول والطعمية، وبالطبع جرى التركيز على بساطة الرجل وعفويته والإشارة إلى أن المواطنين فوجئوا به ومعه أسرته يدخلون عليهم المطعم ليتناول الفول والطعمية! بين تلك الأخبار المحتفى بها مواضيع وتقارير أخرى عن سير شرف على قدميه من مكان إلى آخر أو خروجه من مكتبه في المقر الحكومي ليتحدث إلى الناس «على الرصيف» حول مشاكلهم وهمومهم، أو استقباله البسطاء في مكتبه وحمله حذاء مواطنة بسيطة كانت خلعته عند دخولها حجرته... ولأن الناس في المقابل يقرأون الصحف ويشاهدون كل يوم برامج الفضائيات المصرية التي تتحدث عن القصور والفيلات والشقق الفاخرة والأموال السائلة والمغسولة التي نهبها رموز النظام السابق وقصص «ألف ليلة وليلة» التي عاشوها فإن المقارنة هنا تُشغل القارئ أو المشاهد وتجعله منساقاً ومشتاقاً إلى مزيد من الأخبار والتقارير عن تلقائية رئيس الحكومة وأخباره غير السياسية. ومع التسليم بأن من الطبيعي أن تلهث وسائل الإعلام وراء الحياة الخاصة للمشاهير أو الشخصيات العامة فما بالنا بسلوكيات لم يتعودها المصريون من رؤساء حكوماتهم، إلا أن المبالغة في أمر كهذا تجعلك تدرك أن الإعلام في مصر ما زال يحتفظ بكثير من مظاهر الفساد التي غطته طوال سنوات حكم النظام السابق، خصوصا أن القريبين من شرف ومن يعرفونه جيداً يعلمون جيداً أنه كان يرفض هذا النوع من «التغطيات» لتصرفات يراها طبيعية ويسعى الإعلام إلى تحويلها وكأنها من عجائب الدنيا. ومن تعامل مع شرف قبل توليه منصب رئيس الحكومة يتوقع أن الرجل كان يتمنى أن يكون الاهتمام بزيارته لسيناء منصباً على مشاكل ومعضلات وقضايا أهملها النظام السابق وسعى هو إلى حلها. يتكرر الأمر نفسه ولو بصورة أخرى مع المجلس العسكري الذي يدير الأمور في البلاد حين تذكر إشادات في غير محلها أو بدون مناسبة أو تبرز التصرفات العادية وكأنها من الخوارق بدون أن يرغب أصحابها في أي إشادة أو إبراز. الحديث هنا عن أداء أعضاء المجلس العسكري أو قرارات المجلس ذات العلاقة بالعملية السياسية التي من الطبيعي أن تتعدد وتختلف الآراء والرؤى حولها، لكن في الإعلام تجد من يعتبر أن التحفظ أو الرفض أو مناقشة أو طرح وجهات نظر أخرى في هذا الشأن وكأنه ضرب للثورة أو انتقاص من الجيش نفسه. المؤكد أن الإعلام المصري في عهد مبارك عانى أمراضاً خطيرة وأن خطوات وإجراءات العلاج ما زالت بطيئة ولا تستأصل جذور فساده وجراثيمه وفيروساته، وأن الثورة وتضحيات شهدائها تستحق إعلاماً يتجاوز ما يأكله المسؤولون. وسواء تناول رئيس الحكومة «الكبسة» مع أهالي سيناء أو الفول مع مواطني القاهرة فإن الإعلام المصري ما زال يعاني «كبسة» غياب مبارك... ومؤامرات الفلول.