غسان الذي لم يألف الرسوب او الفشل طيلة حياته الدراسية، الا في المرحلة الجامعية الثانية، عندما كان طالباً في قسم الكيمياء، رسب اخيراً بسبب تجاوز غياباته الحد المقرر، لأنه لم يحضر طيلة العام الدراسي اية محاضرة في مادة «الكيمياء التحليلية» التي يدرسها البروفسور صفاء المرعب. لم يحضر غسان بسبب ما يتناقله الطلبة عن حدة مزاج استاذ المادة وعصبيته وفظاظة لسانه، وانه لا يمكن لأي طالب مهما كان ذكياً ان ينجح في تلك المادة، وان الاستاذ صفاء المرعب كما يسمى يحرج الطالب امام زملائه وزميلاته، ولأن غسان القادم الى العاصمة من الريف العراقي معروف بخجله المبالغ فيه، الذي يبلغ في بعض الاحيان حداً يجعل زملاءه يشكون في انه لا يمتلك الثقة الكاملة بنفسه. يقول الباحث الاجتماعي الدكتور فؤاد طاهر ان المجتمع العراقي من اكثر المجتمعات العربية ميلاً لاطلاق الاحكام الجاهزة والذي يبني قراراته على أفكار مسبقة عن الاشخاص وحتى المجتمعات. ويضيف ان العراقيين لديهم حكم مسبق على اهالي كل محافظة من محافظات البلاد، فضلاً عن ان التنوع الاثني والعرقي والديني جعل لكل مجموعة احكامها الخاصة عن المجموعة الاخرى. ويضرب طاهر مثلاً هو ان العراقيين ينعتون أهالي الموصل بالحرص الشديد على المال، ولديهم حكايات ونوادر كثيرة من نسج الخيال في هذا المجال منها ان «ثلاثة من اهالي الموصل انتحروا بطلقة نارية واحدة لتوفير الرصاص». وعكس ذلك، فهم يمتلكون افكاراً مسبقة عن السخاء والكرم الذي لا حدود له عن اهالي الانبار، وهناك طرفة يتداولها العراقيون مفادها ان شخصاً من اهالي الانبار أحترق بيته ولما وصل الاطفائيون للسيطرة على الحريق حلف بالطلاق بالثلاثة انهم لا يطفئون الحريق الا بعد تناول الغداء. لكن الباحث الاجتماعي يعتبر ذلك غير صحيح ويعزوه الى الفارق الحضري بين المحافظتين، اذ ان الموصل مدينة حضرية منذ قديم الزمان والكرم فيها هو كرم اهل المدينة، اما الانبار فهي مدينة صحراوية لذلك ما زال اهلها يتطبعون بطباع قدماء العرب. الدكتور عبداللطيف الجوراني، وهو باحث نفسي، يعزو اعتماد العراقيين على الافكار المسبقة عن الآخرين الى «الحروب الكثيرة والازمات والمحن التي مرت عليهم، وجعلت المواطن العراقي لا يستقر وليس لديه الوقت الكافي لتجربة الآخرين لذلك تجده يتعامل مع الآخرين الذين لا يعرفهم بحذر شديد ويتوقع الاسوأ لأنه يعتمد على نظرية «سوء الظن من حسن الفطن». ويشير الجوراني الى ان «التربية لها الدور الاكبر في استمرارية ذلك وتناقله من جيل الى جيل». ويؤكد ان الافكار المسبقة في المجتمع العراقي تشمل حتى النظرة الى «المرأة وضرورة ان تبقى حبيسة البيت»، مبيناً انه ما زال ينظر بريبة الى المرأة العاملة»، موضحاً ان «المجتمع لن يتعافى من هذه الامراض ما لم يستقر مادياً واجتماعياً وفكرياً ونفسياً». ويروي الجوراني ان «جاره تخوف من الاختلاط به وبأسرته لأكثر من سنتين لأن زوجته تعمل مذيعة في احدى القنوات العراقية، مبيناً ان «جاري اعتبر اننا خطر على اسرته وحذر جميع ابنائه وزوجته من الاختلاط بنا». ويضيف ان «حادثاً بدل رأي جاري ابو عباس وأفكاره المسبقة عنا، وهي انه (ابو عباس) كان ذاهباً في عمل خارج بغداد اضطره إلى المبيت هو وولده الوحيد ولم يبق في البيت الا زوجته وبناته الثلاث. وبعد منتصف الليل، حدث ما لم يكن في الحسبان حيث سمعت زوجتي صراخاً في منزله، وهرعنا لنجدتهم من دون تفكير، ووجدنا اصغر بنات ابو عباس وتدعى زينب، ممددة وفاقدة الوعي». ويمضي قائلاً: «اخذناها الى اقرب مستشفى وسهرنا معها حتى الصباح»، مؤكداً ان «هذه الحادثة غيرت نظرة ابو عباس إلينا واصبحنا اقرب جيرانه». تفاجأ غسان عندما اضطر في السنة الثانية الى حضور درس «مادة التحليل الكيميائي، اذ لم يكن استاذ المادة فظاً كما وصفه بعض الطلاب ولا يحرج احداً امام زملائه، ففرقه الوحيد عن بقية اساتذة جامعة بغداد ان مادته تحتاج الى قراءة كثيرة لأنها تعتمد على ارقام وحسابات دقيقة لا تقبل الخطأ. اكمل غسان سنته الدراسية بتفوق وعلى رغم مرور 8 سنوات، ما زالت هذه القصة تؤلمه لأنها ضيّعت عليه سنة من حياته، ولكنه يعترف بأنه تعلم درساً بليغاً، وهو ان لا يعتمد على الافكار المسبقة عن الآخرين».