رأيته منذ أيام. كانت المواقيت مختلفة رغم التكرار. لم يضف لي جديداً بملامحه التي تعودتُ عليها. شرود واصفرار في الوجه. نظرات حائرة تبحث عن تفسير ما لتلك الحياة التي يحياها، في شبه واقع مثل حُلم غير مرتب أو فيلم سينمائي بلا شريط صوت. غرفته والبلاتوه سواء. تمتطيه الحياة. حتى إن ضَحِكَ، يزداد شروده حتى يتخيل مَن يراه أنه على وشك أن يسقط على الأرض بلا حراك. مات والده منذ عشرين عاماً ولم تبق منه إلا تلك المقولة: - هيثم الوردي ابني مخاوي. وقال لي أحد الممثلين: - لا تجهد نفسك في البحث عن مبررات لشروده فمن الممكن أن يكون لقراءة الفلسفة العدمية دور في تلك الهالة الكئيبة التي تصبغ ملامحه. أزرق العينين. خافت البصر وقوي البصيرة. تحسه عائشاً منذ خمسمئة عام، أو قادماً من أزمنة ثلجية شهدت حروباً بدائية حول الكهوف. دائم الإهمال في مظهره، رغم وسامته وثرائه النسبي. إلا أن ما يحيرني حقاً هو مشهد وداعنا، في مختتم أي لقاء يجمعنا. بمجرد غلق باب سيارته سماوية اللون يوصيني بالتخلص من كآبتي المفرطة تلك والتي تقلل كما يقول من فرص قد تتاح لي في مجال عملي السينمائي. أضحك بدموع مالحة. ضحكتُ اليوم كثيراً بعد أن تعرضتُ للسب والشخر من السائق الطائر على الطريق الدائري والذي رماني القدر في صحرائه، بعيداً من إطاري سيارته الأماميين. ارتميت بجسدي قرب مزلقانٍ لا منتهى لبروز أسياخه الفولاذية. كان كل ما يسيطر عليَّ خلال نصف الساعة التي قضيناها في السيارة، هو كيف يمكن وضع حاجز مادي أو نفسي بين حياتي كممثل، وحياتي الخاصة. صديقي الحائر لم يمهلني هذه الليلة لأستكمل حديثي حيال ما يحياه. صخب وهدوء، ورع وفجور. كائن معذب بتناقضاته. صوفي وملحد، رومانتيكي وواقعي... حتى النخاع. أعمى ومبصر. حمدت الله على وصولي البيت سالماً، فاستسلمت للقراءة من جديد، لأجد مفاتيح تجسيد شخصية جديدة. تفتح باب الهوى والتكرار. تقطع الصالة ذهاباً وإياباً. على الأرضية قطرات سقطت من كأسك الأولى فيما يتعالى دخان سيجارتك. دور مرسوم بخفة في سيناريو يتكرر منذ بدء علاقتك بفن التشخيص. أتاني به الريجيسير منذ عامين على ما أذكر. وضعه على مكتب من الزان يحتشد بمؤلفات الدراما والتصوير وماهية الضوء وظلاله وعنوان عن الاغتراب لشاخت، ومسرح العبث لبيكيت، ورواية «كل الأسماء» لجوزيه ساراماغو، وصورة في برواز على حائط قديم لجمال عبدالناصر وهو يسلمه جائزة الدولة عن دوره في فيلم أبيض وأسود أنتجته المؤسسة العامة للسينما قبل هزيمة (يونيو) أو بعدها بقليل. هو لا يذكره. في تلك الليلة سمع طرقات غريبة على باب شقته. انكمش بين الكتب. زاغت عيناه في صورة قديمة تعود إلى العام الثالث والثلاثين، وأخرى قبل ثورة (يوليو)، وقد ارتدى ربطة عنق من حرير أسود، وهو يرفع تمثالاً صغيراً من الذهب. صورة فوتوغرافية صغيرة لمخرج راحل. صرير أبواب مفتوحة على مصراعيها. سبوتات إضاءة ترتكن إلى مرشحات وفلاتر. هالات ورؤى شبحية لأدخنة كثيفة تفترش الفضاء بمهل وصوت لمجهول يكرر: - ملعون أبوكم. هذه ليست سيرة.