ليست قصصاً عن نساء ورجال تتطور أحداث حياتهم وتتصاعد لتبلغ ذروة أو تسوية ما، بل هي شهادة بصرية غالباً عن الاجتماع، ريفياً ومدينياً، وتبدل الصور والمكان في الأزمنة المتحولة. «فيزيك» حسن داوود الصادرة عن دار الساقي، بيروت، قصص عن المكان في قديمه المستعاد وجديده النائي، على أنها تنتمي الى التجربة السردية الحديثة التي تتخفف من اللوازم القصصية التقليدية، وتنبذ الانعطافة المفاجئة في الحدث المؤدية الى تغيير في الوعي أو الحياة، لتكتفي بمتابعة تياريهما فحسب في التبعثر واللاغائية. «فيزيك» عن الذاكرة ومخزونها من الصور الأليفة الذي يكاد التشديد عليه يقترب من تثبيته، ويعرّض الكاتب المحايد عاطفياً للاتهام بالنوستالجيا. كل من «ألومنيوم» و «ليلة السهرة في بيت عبدالراضي» تراجيكوميديا لامعة عن سلوك الريفيين المتشابه وسط الأحداث والصراعات غير المألوفة، واشتراكهم بنموذج ثقافي واحد يكاد يحرّم الفردية. تسقط طائرة إنكليزية قرب ضيعة ويختفي طيارها فيسرق القرويون أجزاء منها لبيعها، وتدفعهم غريزة البقاء الى الوشاية بالشقيق والأب أثناء التحقيق الذي يعتمد الجنود الإنكليز فيه التعذيب فيكسرون الأيدي والأسنان ويتسببون بالصمم. تسطع العصبية القبلية حتى في مجال التعذيب الذي يثير التنافس بين أهل القرية و «الغرباء» في تلك المجاورة. حين يسأل رجل عمن ضرب أكثر، أهل الشومرا أو أهل الصفورية، ينبع الجواب المرح من دون قصد من تسوية وتمسك بالكرامة الجماعية. كانت كمية الضرب نفسها ربما، لكن أهل الشومرا توجعوا أكثر. عبدالراضي ليس موضوعاً لقصة بوليسية هدفها الشك والتحقيق والبحث عن القاتل، بل رصد رد فعل أهل القرية في خوفهم وترددهم وانهماكهم وتماثل تفكيرهم. تبلغ القصة ذروتها خلال فحص الطبيب الشرعي الجثة الضخمة التي لم تتسع لها الطاولة، على ضوء اللوكس ليلاً، في مناخ طقسي وحضور الرجال الذين يغذي احتشادهم وحسهم بقوة الكتلة الذكورية ورفقتها. المفارقة أن مهابيل القرية الثلاثة وحدهم لا يريد أحدهم أن يشبه الآخر لعلمه أن جمعهم ليس في مصلحة أي منهم. يميز السكان بين ابراهيم الأهبل القوي وحسين الأهبل الخواجا ومحمد وطفا الأهبل وحسب «لأنه لا يريد أن يكون شيئاً آخر غير ما هو» (في الصفحة 65). نشأ الثلاثة في ثقافة قاسية، غليظة اعتبرتهم دون البشر، وشرعنت الإساءة إليهم، وعاملت الواحد منهم في حضوره كأنه خفي. يشفقون على حسين الوسيم الذي تعليه وسامته الأجنبية وتعطيه حق الرأفة. «ضيعانو يكون أهبل هيك» يقولون «لكي يذكر بعضهم بعضاً بشكله الذي يشبه الإنكليز»، ويصيحون محمد وطفا الى بيروت وينسونه فيها، فيندمون قليلاً ثم يتحولون هم الخاسرين عندما يفكرون أنه كان أضحكهم لو أعادوه معهم. يعارض حسن داوود النزعة الرومنطيقية التي تضفي براءة كاذبة على القرية وتجعلها مجاز الخير الخالص بإزاء المدينة، بؤرة الشر والفساد. تبقى، في حيزها الجغرافي وانتقالها مع أهلها الى المدينة، عالم رجال يتكتلون ويفترقون، ويشبه واحدهم الآخر حتى في سعيه الى الانفصال والفردية. يؤرّخ سميح أحداث القرية ويحفظ شباب أهلها مذ اشترى كاميرا في 1944 وباتت صوره تساوي ثروة لجيل الأبناء، لكن المفهوم الريفي للملكية يمنع المشاركة ويحرم الراوي فرصة نسخ الصور ولا سيما تلك التي يظهر والده الشاب فيها. يخالف ما التقطته الكاميرا القديمة صورة الآباء الذين يولدون آباء بأعين أبنائهم، ويعارضون كل التصورات عن أشكالهم قبل أن ترسخ هيئة لهم، جسدية ونفسية، وقبل أن يصبحوا ما هم عليه، أي قبل «حقيقتهم». لا قيمة للصور، يقول سميح المسنكر الإعارة، إذا كانت عنده وعند غيره لأنه لا يعود في هذه الحال مالكها. تطل المرأة غاوية في قصة «محمد وطفا» ومدعية رومنطيقية مصطنعة في «بئر مريم» التي فتنت الفتيات فيها بقصص الشابات المنتحرات في القرية، علما أن أحداً لا يستطيع تذكر اسم واحدة منهن. شاءت مريم أن تكون بطلة درامية ترمي نفسها في البئر «من أجل أن تكون جميلة وعاشقة في القاع» (الصفحة 126) ولم يوقفها الشك في صحة القصص، أو احتمال عجز رشيد، منقذ المنتحرات المزعوم، عن إنقاذها. ابتكرت صورة لنفسها تفوق حقيقتها وحياة القرية الخاوية جمالاً، لكنها لم تكن جميلة في موتها، وانتفخ ثوبها الواسع فوق ماء البئر مثل صرة كبيرة فارغة (الصفحة 127). من نساء الكتاب القليلات فرحة ومرحة اللتان غنتا في حفل زفاف عم الراوي في 1962 حين كان في الثانية عشرة. يمحص في صورة لهما من تلك الليلة، ويستخرج صورة ذلك الفتى ليفهم المغنيتين التوأمين المحدودتي الشهرة اللتين غابتا فجأة. أكدتا هيئتهما الواحدة بارتداء ملابس متشابهة كأن إحداهما نسخة عن الأخرى، وكأنهما تدلان الى تكرارهما الساعي الى أن يكون نفساً واحدة (الصفحة 98). يفكر أنهما لم تكونا فنانتين حقيقيتين بل مقلدتين للفنانات الحقيقيات حين تتبادلان كلاماً عادياً مع المدعوين ومعرفتهما شخصاً يعرفه هو زوج عمته. بعض القصص أقرب الى البورتريه ( «علم السيد أمين» و «جناحا الرجولة الثقيلان») والمقال («تعصب» و «جسر الكولا») وفي المجموعة مساءلة لمجتمع يزحف ريفه على عاصمته، ديموغرافياً وثقافياً، ويسد فراغات الدمار بعمران لا يملأ الهوة النفسية بين زمنين. في «فيزيك» يتمرن مراهقون ورجال لكي يشكلوا من أجسادهم صورتهم عنها، وينتموا بعرقها الى جماعة مميزة. يغيرون هيئاتهم حين يخرجون من النادي لكي ينقلوا ما في ذهنهم الى الناظرين. يبحث الراوي عن الألفة المفقودة في «وسط بيروت» الذي أحدث تجديده التباساً يواكب الذهاب الى مكان وهو يعتقد أنه في مكان آخر. غابت معالم سابقة عرفها، وعليه أن يبدأ ثانية ليجد مواقعه وزواياه بحثاً عن علاقة مع قسم من المدينة بات الراوي أكبر عمراً منه. فصل التجديد وسط العاصمة عن محيطه، وعزل بعض الذاكرة عن الحاضر. ترى عيناه ما لا تبصره ذاكرته كأنه ينتمي الى بعد زمني آخر، ولا يجد مطارح مفضلة يستدل منها الى موقعه في المدينة. لا يقوم التذكر على المعرفة وحدها بل الحنين الى ألفة مفقودة، وإذ يجد العزاء في التواطؤ مع الجدة التي تشعره أنه اصطفى نفسه من محيط سكنه، تعجبه غربته في مكان لا يعرف فيه أحداً، وكونه يصنع هو أيضاً المشاهد الأولى لانشغال المدينة.