إذا كان البن والنخل من الرموز التي يتفاخر العرب بها وتمثل لهم تاريخاً وطيداً من الأخلاق والقيم، فإن الصحراء لا تقل عن تلك الرموز مكانة وقيمة، فمنذ أن ولدوا بها وعايشوا كائناتها وتعاطوا نباتاتها والتحقوا بوديانها وتعرفوا إلى جهات الأرض بواسطة مصابيح سمائها، أصبحت الملاذ الآمن لهم في مختلف الأحوال والظروف والاستئناس بما تمليه عليهم من الأفكار والمشاعر والرغبات. ليس غريباً والحال هذه أن نجد واحداً من أبنائها، وهو وزير البترول السعودي السابق علي النعيمي، يرفع هوية الصحراء ويعتز بانتمائه إليها، على رغم الحضارة المدنية التي أحدثت تحولاً كبيراً في نفسه ومجتمعه ولم تتمكن من إلغاء عشقه للرمال الذهبية وأساطيرها العجيبة. منحته تلك البيئة الصحراوية قدرة على استكشاف ما هو أبعد وأعمق من تلك العضلات الموزعة على صدور الدهناء أو النفود والربع الخالي، فتوغل في باطنها وتعرف إلى فصائل دمائها النفطية وميّز بين الخفيف والثقيل منها، منذ أن بدأ ساعياً في عمر 11 عاماً في شركة النفط الكبرى «أرامكو»، إلى أن تسنّم قيادتها في الثمانينات الميلادية، وصولاً إلى منصب وزير البترول والثروة المعدنية في التسعينات الميلادية في وطنه المملكة. أظهر النعيمي حبه للصحراء التي أنجبته ولتخصصه العلمي في الجيولوجيا عندما تحدث عن سيرته وحياته في كتابه «من البادية إلى عالم النفط»، الصادر حديثاً عن الدار العربية ناشرون بيروت 2016، وقصة تدفق النفط في الجزيرة العربية، وكيف تم استخراج تلك الثروات من بطن الصحراء. لم تخلُ صفحة من الكتاب من دون أن تفوح منها رائحة الصحراء ومكوناتها المختلفة حتى نرى المؤلف وهو يتكئ على جذع شجرة في الربع الخالي مُعلناً: «ها أنا حيث أنتمي على رمال الربع الخالي»، ثم نشاهده على رأس مجموعة من الزوار في حقل الشيبة يشرح الطريقة المناسبة للمشي على الرمال: «أسير على رأس مجموعة من الزوار ونحن نهبط كثيباً رملياً في الشيبة، في بعض الأحيان تأتي الزائرات بكعب عالٍ، وهذا حذاء غير مناسب لصعود الكثبان الرملية، كما لا يمكن صعودها جرياً». ناب الذئب وعن علاقته بدواب الصحارى يحكي النعيمي قصة ناب الذئب الذي تقلّده منذ طفولته واعتداده به: «انتزعه خالي من فك الذئب، وارتديت مثل أخي محمد قلادة فيها ناب، إذ يعتقد الخال أن الناب يطرد الجن، وقد احتفظت بقلادتي تلك لسنوات عديدة»، ويضيف: «على الرغم من ناب الذئب الذي تقلدت به في صغري فقد رميت بهذا الوصف بعدما تعلمت استخدام السلاح وإطلاق الرصاص - فقد قرر العم عبدالله - عدم اصطحابي للصيد بعدما صوبت بندقيتي تلقائياً تجاه الغراب الذي يطير بمحاذاتنا من النافذة المفتوحة أثناء طيرانه في السماء واقتناص الحبارى بيدي وهي على قيد الحياة - ويصرخ - «أنت مسكون أكنت تخدعني». موضحاً إصراره على الاعتذار عن منصب وكيل وزارة الزراعة لشؤون المياه بقوله: «إن ظن أحد أن بي رعونة بسبب اعتذاري، فقد قيل عني كذلك إن بي مساً من الجن». ثم يتذكر النعيمي هذا الناب وهو في رحلة صيد في ألاسكا والدببة الجائعة التي تستسيغ لحوم السمك على لحوم البدو فيقول: «لو كنت مؤمناً بأن جن ألاسكا تخشى الدببة كما تخشى جن الدهناء الذئاب لتفاءلت بذلك الدب الجائع، ولربما حاولت اقتلاع أحد أنيابه، إلا أني تركته يلتهم أسماك صاحب المعالي وغادرت عائداً إلى الوزارة التي تنتظرني». لم يجد كاتب السطور وهو القادم من حقول الفنون والآداب بُداً من الاسترشاد بالمعاجم الجيولوجية وبمفاهيم علم البيئة لفك طلاسم ما كتبه النعيمي والسفر معه عبر أكثر من 290 صفحة في قارات العالم المختلفة والاستعجاب من المهارة اللافتة التي يمتلكها في التواصل مع الآخرين وإيجاد الحلول التكتيكية للتفاوض وبناء جسور من العلاقات الإنسانية في أية بقعة حلَّ فيها والتقريب بين ثقافات الشعوب والمصالحة بينها، إما لإبرام صفقة نفطية أو لو توطيد علاقة شخصية: «سألت الكوريين في أحد اجتماعاتنا عما يحبون عمله في أوقات فراغهم، وكم فرحت حين أجابوا بأنهم يحبون المشي مثلي، فأسسنا نادياً للرحلات الطويلة، ساعدنا كثيراً على فهم الكوريين وعقليتهم، فتعرفنا على خصالهم ولمسنا صدقهم وأمانتهم، ولا أبالغ إن قلت إن لذلك النادي فضلاً في كسر بعض حواجز اللغة، فلم تفتق ألسنتهم بالعربية ولا لويت أحناكنا بالكورية، لكننا اتخذنا لغة غير محكية نتبادل فيها إجلال طبيعة كوريا الجميلة، ازدادت علاقاتنا التجارية والشخصية متانة مع الكوريين على مر السنين، واليوم نحن أكبر مورد للنفط الخام في كوريا»، ثم يعترف: «ما أكثر معارفي في دول آسيا، ولا سيما التي تربطنا بها علاقة تجارية، ولكن ما أعز أصدقائي في كوريا»! مستشهداً بمقولة زميله أحمد السبيعي: «الكوريون بدو الشرق». ويؤكد الوزير الجيولوجي: «جبنا أرجاء المعمورة تلك الأيام بحثاً عن أرض خصبة لنشاطنا، فلم نجد مثل آسيا، لكن أقدامنا ظلت واقفة على عتبات سور الصين العظيم»، ويكمل: «لعبت ورقة رياضة المشي مرة أخرى أملاً في التقرب منهم. وأخيراً تكللت جهودنا بالنجاح عام 2007. ففي 25 شباط (فبراير) من ذلك العام أقيمت في قاعة الشعب الكبرى في بكين حفلة كبيرة وقّعت فيه شركتنا الصينية التابعة لأرامكو السعودية اتفاقاً رائداً مع شركائنا الصينيين سينوبيك كورب وحكومة مقاطعة فوجيان واكسون موبيل»، ويعترف: «كان الصينيون زبائن دهاة وانتهازيين». واستخدم النعيمي مهارته الفنية في فهم الثقافة اليابانية، بعدما وجد أنه في حاجة ملحة إلى اتخاذ إجراء سريع: «على رغم قصر المسافة الفاصلة بين اليابان وكوريا التي لا تتجاوز 200 كيلومتر إلا أني صعقت باختلاف أسلوب التفاوض بينهما، إذ اكتشفت أن اليابانيين حين يقولون لك «نعم» أثناء المفاوضات فهم يقصدون «سمعتك»، ولا يخلو الأمر في نظري من تجافي النفوس، فالأرواح جنود مجندة». ويضيف: «خطرت لي فكرة رائعة، وهي أن أحضر إلى الاجتماع طالباً سعودياً يدرس في اليابان، ووقعت على طالب كانت لغته اليابانية ممتازة، إلا أني لم أطلب منه الحديث، بل مجرد الجلوس في الخلف والإصغاء، وطلبت له ألا يحفل بالجالسين على الطاولة أمامي، بل يلقي سمعه إلى من هم خلفهم، وهكذا تبين أنه حين يقول نظراؤنا «نعم» فإن الجالسين خلفهم يقولون «مستحيل». ثم ينتقل النعيمي في كتابه إلى الفيليبين ويقول: «كانت المفاوضات عملية للغاية وعالية التنافس، إذ كانت جزءاً من حملة خصخصة واسعة النطاق قادتها الحكومة الفيليبينية»، لكنه يؤكد: «لم يتحمس الفيليبينيون لرياضة المشي، ولربما تذرعوا بحرارة الطقس وبالرطوبة، لكن جميع الفيليبينيين الذين عرفتهم يحبون الأكل». الثقافة الأميركية يعود الوزير السابق من آسيا ليتذكر علاقته بالشعب الأميركي منذ التحاقه بشركة أرامكو ويقول: «علمني عمال النفط الأميركيون لعبة البايسبول، ثم ساعدوني لاحقاً على فهم الثقافة الأميركية»، وفي الجامعة التي تخرج فيها يقول: «رغبت آنذاك في ترك انطباع حسن، فاتخذت الدعابة وسيلة لتخفيف التوتر الذي قد يصيب بعض الطلاب الأجانب من هكذا لقاءات، سألتني إحداهن كيف وصلت إلى أميركا؟ فقلت: أتيت على متن جمل طائر (يقصد طائرة أرامكو دوغلاس دي سي-9)، ويضيف: «كنا نهتم أيضاً بالتعرف على الثقافة الأميركية، ولا سيما ثقافة الشباب، حتى أنني تعلمت رقصة الجتربغ»، موضحاً: «يتفاجأ الأميركيون غالباً بروح الدعابة التي نمتلكها نحن السعوديين ربما بسبب الصورة النمطية التي يتناقلها الإعلام عن شخصية السعودية ذي اللباس التقليدي والنظارات الشمسية.. لكن سنواتي في أرامكو علمتني أن السعوديين والأميركيين يحبون المرح على حد سواء»، وفي علاقته بصديقه الأميركي سام وايت يكتب النعيمي: «كنت أمازح فتى تكساس قائلاً إن كلينا ابن بادية.. ولا أبالغ إن قلت إن تلك الصداقة لها قيمة كبيرة عندي وساعدتني على فهم أميركا وأهلها بعمق أكبر، وأضافت لي بُعدا آخر، وستثبت العقود القادمة بأن فهمي لأميركا وأهلها من أهم مهاراتي». ووهب الله علي النعيمي سعة صدر كبيرة في مفاوضاته مع الآخرين، ففي حديثه عن تعامله مع اليونانيين يروي لنا: «أعتقد أن المثل القائل «حذار من اليونانيين الذين يحملون الهدايا» صحيح. إذ طلب الممول اليوناني جون لاتسيس شراء بعض النفط الخام واستمر أربع ساعات في حديثه الذي لا يمس العمل لا من قريب ولا من بعيد، لكنني استوقفته وسألته مباشرة عما يريد فقال بإنه يرغب شراء مليوني برميل من الخام السعودي فقلت: ولماذا لا تتواصل مع قسم التسويق مباشرة، فأوضح أنه يريد خصماً خيالياً يقارب ال10 دولارات للبرميل الواحد، فأخبرته بوضوح أنه سيحصل على السعر الذي يحصل عليه أي عميل يطلب طلبية كهذه، ثم قال: انس أمر مليوني برميل، سأشتري مليون فقط بشيك مسحوب على مصرفه وأرامكو لا تتعامل إلا مع 4 مصارف محددة، ومصرفكم ليس منها، فاستشاط غضباً وقال سأشتري 100 ألف برميل نقداً فرحبت بعرضه». يتمتع النعيمي بملكة في الإقناع وتقريب وجهات النظر واتخاذ الإجراء المناسب لضمان تحقيق الهدف، ولهذا لن نستغرب حينما يجمع النعيمي في الرياض، المكسيك وفنزويلا والنرويج وروسيا لخفض منسق من النفط لإثبات حسن نوايا السعودية والتعامل بشفافية أكبر مع منتجي النفط من داخل وخارج أوبك على حد سواء، وفي هذا تقول وزيرة الطاقة النروجية ماريت ارنستاد: «أعتقد أن السيد النعيمي كان له دور مهم في ذلك، لأن طريقته في التحاور مع الدول الأخرى اتسمت بالحكمة، امتاز بالانفتاح فضلاً على سعة أفقه إزاء مختلف قرارات الدول الأخرى». سيدات «أرامكو» لعب النعيمي دوراً كبيراً في إشراك المرأة في العمل ومنحها الثقة المطلوبة في بناء هذا البلد وإثبات موهبتها في البناء والنماء: «أعتز بالقول إن شركة أرامكو التي ما زالت تتمتع بقدر جيد من الاستقلال الإداري قاومت دعوات البعض للحدّ من توظيف المرأة المؤهلة أو ترقيتها»، ويضيف: «زخرت أرامكو بنماذج من أولئك السيدات اللاتي ترفّعن في سلم الشركة، إذ تولين مناصب قيادية عليا، فأول مهندسة بترول في أرامكو كانت نائلة موصلي، كذلك هدى الغصن التي توظفت في أرامكو 1981، وبحلول 2007 أصبحت أول امرأة تتبوأ مقعداً في مجلس إدارة إحدى شركاتنا، كما أصبحت لاحقاً المديرة التنفيذية للموارد البشرية في أرامكو السعودية، وأيضاً نبيلة تونسي التي انضمت لأرامكو أواخر 1988 وأصبحت مسؤولة عن كتابة التعليمات البرمجية لكومبيوتر أي بي ام المركزي في أكسبك، حتى أصبحت كبير المهندسين في قطاع الخدمات الهندسية في الشركة، إضافة إلى فاطمة العوامي التي عملت في محاكاة المكامن في مجمع أكسبك ثم مشرفة في قسم وصف ومحاكاة المكامن وساعدت في تطوير نهج حلول الحوادث الذي تعتمده أرامكو لحل مشكلات إدارة المكامن». إن ما يجب أن أختم به هذه السطور هو أن النعيمي رجل دولة من طراز رفيع ونموذج مثالي للمواطن الحريص على وطنه ومقدراته، وكم كان سيظلمنا ويظلم نفسه لو لم يخرج لنا هذا الكتاب ويوثق جزءاً مهماً من تاريخ الجزيرة العربية وتضاريسها الممتدة من البحر إلى البحر. * شاعر وكاتب سعودي.