حاجات مجتمعنا تنمو وتتسارع بشكل لا يحتمل التأخير والتأجيل أو البيروقراطية التي أنهكت بعض مجالاتنا التنموية، ونرى المشهد ماثلاً أمامنا على سبيل المثال عندما تتنامى أعداد خريجي الثانوية العامة من البنين والبنات بشكل متسارع خلال السنوات ال «عشرة» الماضية ولم تَعد جامعاتنا السبع قادرة على استيعابهم، ما حدا بأعداد كبيرة منهم إلى السفر خارج الوطن طلباً للشهادة الجامعية من جامعات أوروبا وأميركا ودول عربية مجاورة، ووضع سمعة المملكة وأوضاع التعليم الجامعي فيها على المحك وطاولة النقد والمساءلة، وأمام عجز المخططين للتعليم في وضع خطة طويلة المدى تستوعب تدريجياً من دون إرباك النمو السنوي في أعداد الخريجين من الثانوية العامة، وازدياد الضغط على جامعاتنا القائمة آنذاك وتراكم حجم المشكلة، عندئذ تدخل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وأحدث بقرارات جريئة انتفاضة توسعية في مجال التعليم العالي خلال السنوات الخمس الماضية لم تشهدها دولة من قبل في حقبة زمنية مماثلة. زرت محافظة الخرج أيام عيد الفطر المبارك وشاهدت العمل يجري على قدم وساق لإنشاء مباني الجامعة الجديدة بالمحافظة، ولأن المجال لم يعد قابلاً للتأخير حتى تكتمل منشآت الجامعة، استأجرت وزارة التعليم العالي عدداً من المباني لبدء الدراسة في بعض الكليات، وعندما رأيت صالة أفراح، سبق أن حضرت فيها مناسبة زواج أحد الأقارب قبل عامين، وقد عُلّق على مدخلها – بعد إعادة تأهيلها- لوحة تحمل اسم كلية الطب، استبشرت خيراً بمستقبل التغيير في هذه الأمة، كان يوماً في اعتقادي مشهوداً، عندما أُنزلت لوحة صالة الأفراح وعُلّق مكانها لوحة كلية الطب، إنه تعبير عن إصرار ومواجهة وفهم لتحديات وضع حالٍ وحاجات مستقبلية. سيحل عريس محافظة الخرج الجديد «عميد كلية الطب» في الغرفة المخصصة للعرسان ليدير من جدرانها وذكرياتها الحالمة أملاً ومنجماً بشرياً جديداً، وسنكون في غاية السعادة عندما نرى الدفعة الأولى من خريجي الكلية وقد توشحوا بجلباب وكوفية التخرج، وانخرطوا مع من سبقهم للعمل في مجال الرعاية الصحية في هذا الوطن. ولكن وأنا عائد إلى منزلي في مدينة الرياض دار في ذهني السؤال المشروع الآتي: ما الذي أوصلنا إلى هذه النقطة الحرجة أو الموقف المتأزم؟ ولماذا حلولنا غالباً ما تكون عسيرة ومُكلفة؟ كان الجواب حاضراً وتلقائياً وفارضاً لنفسه، إنه فشل التخطيط السليم المبني على الرؤية والمهمة، والأهداف، التي تأتي نتيجة طبيعية لتدفق معلوماتي دقيق عن النمو السكاني والحاجات المستقبلية، لقد أنهكتنا ثقافة «حوالي» و «تقريباً»، وأصبحت هاتان العبارتان مرادفتين وملاصقتين لأحاديث وبيانات معظم المسؤولين لدينا، حتى المؤكد صار مسبوقاً أو متبوعاً بنحو أو تقريباً، إنها كلمة النجاة التي يحمى بها المسؤول نفسه في ما لو زادت أو نقصت النسبة، ولكنها آلت بنا في النهاية إلى «فاق توقعاتنا» أو «لم يكن بحسباننا» وانضم إلى قائمة الأعذار أخيراً ارتفاع درجة حرارة الأرض! وأُذكّر المخططين لمخرجات التعليم، والقلقين على تزايد نسبة البطالة أن القطاع الصحي ضمن مناجم الفرص الوظيفية المتوفرة لدينا في المملكة، وإليكم بعض الحقائق الإحصائية التي حصلت عليها من تقارير وبيانات وزارة الصحة وتشير إلى أن إجمالي عدد الأطباء في القطاعين العام والخاص «سعوديين وغير سعوديين» 52838 طبيباً وطبيبة منهم 11018 سعودياً، النسبة 20.8 في المئة، وللمعلومية قبل 20 عاماً كانت نسبة الأطباء السعوديين 20 في المئة، أي أن النسبة لم ترتفع إلا بأقل من 1 في المئة فقط؟! كما تشير الإحصاءات إلى أن إجمالي عدد الأطباء التابعين لوزارة الصحة 24802 طبيب وطبيبة، منهم 4714 سعوديين، أي بنسبة 19 في المئة، وضمن خطة وزارة الصحة المعتمدة، سيتم خلال السنوات الخمس المقبلة افتتاح نحو 100 مستشفى جديد بإجمالي 15 ألف سرير، لتنضم إلى 393 مستشفى تشرف عليها الوزارة حالياً وإجمالي عدد الأسرة 53883 سريراً. وتؤكد التوقعات حاجة المملكة خلال ال20 عاماً المقبلة إلى ما لا يقل عن 30 ألف طبيب وطبيبة، أي أن المجال سيكون متاحاً لتوفر نحو 70 ألف وظيفة في مجال الطب ما بين إحلال ووظائف جديدة، ولكن المعضلة التي تواجهنا، كيف يمكن تحقيق ذلك إذا كانت أكبر جامعتين في المملكة «الملك عبدالعزيز والملك سعود» لا تخرجان سنوياً إلا عدداً محدوداً لا يتجاوز 340 طبيباً وطبيبة؟! ولا تزال جامعاتنا تضع العراقيل «وإن خفت حدّتها بعض الشيء» أمام خريجي وخريجات الثانوية العامة، ما بين نسب تعجيزية للمعدلات أو أعداد محدودة للقبول سنوياً، حتى أصبح الالتحاق بكليات الطب بجامعاتنا حلماً تنهال التهاني والتبريكات على من يُقبل ابنه أو ابنته فيها، كل هذا وأنتم تعلمون أيها المخططون للتعليم العالي أن هذا التوجه يفتح المجال لكوادر طبية وافدة «الله وحده العالم بكفاءة معظمها» للعمل في مستشفياتنا العامة والخاصة، ويُحرم أبناء الوطن الاستفادة من هذه الفرص، بل إنه وصل بي الشك إلى احتمال وجود «لوبي» طبي وافد داخل أروقة جامعاتنا يعمل على استمرار تطبيق هذا النهج؟! وأكاد أجزم أن دولاً مجاورة وغير مجاورة تضع ضمن خطط مخرجات التعليم لديها حاجاتنا بعين الاعتبار، ولا أعتقد أنه يخفى على المسؤولين عن التعليم العالي والصحة في بلادنا أن بعض هذه الدول التي هي أقل من المملكة، مساحة وسكاناً وإمكانات وحاجة، لديها بطالة في أعداد الأطباء! ليجلس المخططون في وزارة الصحة مع المسؤولين عن التخطيط لمخرجات التعليم العالي في الجامعات وعمداء كليات الطب، ويُعرض في ورشة عمل حاجات القطاع الصحي في المملكة من التخصصات والمهن الطبية لل «20» عاماً المقبلة، والوظائف المتوفرة والجديدة أو عن طريق الإحلال، وبعد إقرارها تعلن وتوضع على مواقع الوزارة والجامعات ليعرف طلاب الثانوية العامة أين يتوجهون وماذا يختارون؟ وليكن لدى جامعاتنا المرونة والديناميكية للتغيير والتكيف مع حجم حاجات الوطن من التخصصات وتوجيهها بما ينسجم معها، ليس في مجال الطب فقط بل في جميع المجالات، وبعد ذلك من يتوجه إلى تخصصات غير مطلوبة وليس لها احتياج أو فرص وظيفية يتحمل تبعات قراره، المهم أن يكون التخطيط علمياً ومنهجياً ودقيقاً ومعلناً، وألا تبقى كرة نار البطالة مقذوفةً في ملعب المسؤولية الملتهب بين القطاعين العام والخاص. تُرعبنا نسب النمو في البطالة، والحلول بأيدينا، وبسوء التخطيط عملنا ولازلنا نعمل على دعمها وتغذيتها، فإن كنا ندري فتلك مصيبةٌ، وإن كنا لا ندري فالمصيبةُ أعظمُ. * كاتب سعودي. [email protected]