كشفت الأزمة الحكومية التي دخل فيها لبنان منذ حوالى سنة، أن هذه الدولة التي تتبدل ولا تتغير، ليست في حاجة إلى مساعدات لتحمي أمنها الداخلي وسيادة أرضها، إنما تحتاج فقط إلى قاموس جديد للغة العربية يحوي ما لا تحويه كل القواميس الأخرى التي صدرت من قبل. فاللبنانيون، ومنهم أساطين بلغة الضاد، لم يفهموا كيف أن بياناً مقتضباً لا بد منه لإدارة شؤون وطن يترنح منذ زمن على شفير هاوية ينقصه، فقط، بضع كلمات لينجو من كارثة الانحلال. على أن البيان الوزاري لحكومة لا تتجاوز مدة حكمها أسابيع قليلة، ليس الحل السحري. إنه ليس أكثر من وصفة لتأجيل الأمر المحتم. هذه هي حال الدولة اللبنانية التي تلقت أخيراً هبة من المملكة العربية السعودية بلغت ثلاثة بلايين دولار. لقد جاءت هذه الهبة في زمن القحل المناخي، والقحل السياسي، وفي زمن انخفاض منسوب الشعور الوطني اللبناني بين القوى النافذة على الأرض إلى درجة غير مسبوقة. حتى أن هناك من يصرّح علناً بأنه لم يعد يأبه لمصير كيان مميز بتنوعه المدني، والروحي، والثقافي. مع ذلك جاءت الهبة السعودية مرفقة بكلمات مختصرة: هذه مساعدة من دولة شقيقة لدولة شقيقة، ومن أخ إلى أخ. هكذا، من دون شرط، ولا منّة. ومن دون غاية إلا غاية أن يكون للبنان جيش قوي، منيع الجانب. مُهاب، مسلح بما يحتاج من معدات، وآليات برية وبحرية، وجوية، تمكنه من الصمود ومواجهة أي عدوان إسرائيلي. ولعل من حظ لبنان أن تأتي هذه الهبة في مرحلة، وإن قصيرة، تسبق نهاية عهد الرئيس العماد ميشال سليمان، وأن تأتي في عهد قائد الجيش العماد جان قهوجي، وكلاهما أقسم يمين الشرف دفاعاً عن الوطن: لبنان. هذا القسم يعرفه من يرى الموت شهادة، ويقدم عليه، من دون حساب إلا أن يبقى وطنه حراً من أي وصاية، أو تبعية، تحت أي شعار، أو عنوان. ومن حظ لبنان أنه ليس له أراض ملحقة بأحكام القرار الدولي الرقم 242 الخاص بالأراضي العربية التي سقطت تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1967. لكن للبنان حصة في أراضي شبعا وفي قرية «الغجر» المحتلة. والواقع أن لبنان يحتل المرتبة الثانية، بعد مصر التي حررت أرضها المحتلة بفضل حرب تشرين (أكتوبر) 1973 التي خاضها الجيش المصري على جبهة قناة السويس، وبفضل الجيش السوري الذي، بدوره، أحرز أصعب نصر وأغلاه، على جبهة الجولان في تلك الحرب. لكن لبنان الذي أعفته المروءة العربية من التورط في حرب 1973، عاد وخاض معركة تحرير جنوبه في عام 2000. وإذ حقق لبنان نصره المنفرد بفضل مقاومته التي دفعت بجيل كامل من أبنائها إلى ساحة الشرف، فإن أجيالاً أخرى من اللبنانيين والسوريين، والفلسطينيين، سبقت ذلك النصر وساهمت فيه. وخلف هؤلاء، وأولئك جميعاً، كان الجيش اللبناني يشكل السياج الخلفي، وقد حمى بتكوينه الوطني الجماعي، وحدة الدولة والمؤسسات. لا ينسى اللبنانيون، وسائر العرب، ذلك الإنجاز الكبير الذي حرر الجنوب عام 2000، واستعاد الأسرى المجاهدين، الصابرين، المزمنين، من سجون العدو الإسرائيلي، وبينهم فلسطينيون عادوا إلى أهلهم في لبنان وفي فلسطينالمحتلة. لكن اللبنانيين لا ينسون أي وطن كانوا يحلمون به في أعقاب نصر عام 2000. ولا ينسون الصور التي رسموها في مخيلتهم لوطن جديد يخرج من تحت ركام الأحزان، والآلام، والحرمان، ليعيش آمناً مستقراً، منفتحاً على الدنيا كما عرفته قبل زمن الحروب على أرضه، وقبل زمن المراهنات على كيانه، وعلى شعبه. لا ينسى اللبنانيون أنهم عاشوا في عام 2000، حلمهم العظيم في وطن مصون، ومحصّن، آمن، يسلك دربه إلى مستقبل واعد بازدهار تحتويه المطارات، والأوتوسترادات، والجسور، ومحطات الكهرباء، وبحيرات المياه العذبة، ومشاريع القرى الريفية، والمناطق السكنية. في ذلك العام تخيل اللبنانيون أفواج السياح تتقاطر على وطنهم، يتقدمها الأهل والإخوة العرب، مصطافين، وزائرين، ومستثمرين، ومساهمين في اقتصاد لبنان، ومشاريعه الصناعية. ولقد تصور اللبنانيون عاصمتهم بيروت تفتح للعالم أبوابها من جديد على تحفة أسواقها الحديثة المطعّمة بنكهة التاريخ، والحداثة، والجمال، فيما مدن بعلبك، وصور، وجبيل، وصيدا، وطرابلس، وبيت الدين، ودير القمر، تبعث موسيقاها وفنونها الرائعة مصحوبة بالفرح، والغناء، والرقص. ظنَّ اللبنانيون في عام 2000 أنه بات من حقهم المكتسب بالدم، والشهادة، والدمار، وبالصبر مع الألم والحسرة على الشهداء والمنكوبين، أن ينعموا، كما أي شعب آخر، في المنطقة العربية، على الأقل، بمدى معين من الاستقرار والطمأنينة ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية، ويعوضوا بعض ما قدموا... تلك كانت أحلام اللبنانيين بعد نصر عام 2000، أما اليوم فقد تبخرت الأحلام. وبعد أربعة عشر عاماً تبين أن كل الحسابات كانت خاطئة. مع ذلك تبقى قضية مواجهة خطر إسرائيل على لبنان فوق كل اعتبار... وهذه قضية واجب وطني لا جدال حولها. لكن، أليست هناك صيغة تجمع الجيش والمقاومة والشعب في جبهة واحدة؟ ثمة اقتراح قديم حمله كمال جنبلاط إلى رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري عام 1948 بعد نكبة فلسطين... فحوى ذلك الاقتراح تشكيل حرس وطني يتألف من متطوعين من مختلف المناطق والطوائف اللبنانية، مهمتهم حراسة الحدود الجنوبية مع إسرائيل، على أن تتولى قيادة الجيش اللبناني إعدادهم وتسليحهم، وتدريبهم وإمرتهم، وإدارة شؤونهم، ولهم رواتبهم من موازنة وزارة الدفاع. يتبع ذلك إنشاء تحصينات، وملاجئ، في المناطق الحدودية، ويبقى الجيش في مواقعه المحصنة في خط المواجهة مستعداً لأي طارئ. ومع أن كمال جنبلاط كان في بداية عهده بالسياسة في تلك المرحلة، فقد كانت له رؤيته الصائبة إلى مستقبل لبنان على مشارف الكيان الإسرائيلي الذي نشأ في قلب فلسطين. وإذ كانت إسرائيل قد وضعت قرى حدود لبنان الجنوبية ضمن مخطط توسعها للاستيلاء على مياه نهر الليطاني، وعلى مجاري الينابيع، فإنها لم تتأخر حتى تبدأ بناء المستوطنات والتحصينات قبالة القرى اللبنانية المواجهة. في ذلك الزمن، وتحديداً في عام 1948، جاء كمال جنبلاط إلى مجلس النواب حاملاً بضعة مناشير. كان مقعده في المجلس على طرف يسار الصف الأول. وإذ طلب دوره في الكلام، وقف شاهراً أحد تلك المناشير في وجه الرئاسة قائلاً: «أرجو السماح لي بتلاوة مضمون هذا المنشور الموجه إلى أهلنا في قرى الجنوب». ثم استدار نحو النواب قبل أن يعود إلى مواجهة الرئاسة ويقول: «هذا إنذار من إسرائيل الى المزارعين اللبنانيين في قرى الحدود، إنها تحذرهم من زراعة أراضيهم ومن بناء مساكن جديدة، وتذكرهم بالمجزرة التي وقعت في قرية «حولا» اللبنانية خلال حرب الاحتلال (1948) حيث سقط عشرات القتلى في هجوم شنته عصابات «الهاغاناه» الصهيونية». وإذ راح عدد من النواب يتبارى بالدعوة إلى حماية أهل القرى الحدودية، أعلن جنبلاط أن المطلوب تشكيل حرس وطني، ثم شرح اقتراحه المرفوع إلى رئيس الجمهورية. هذا الاقتراح مضى عليه ستة وستون عاماً، وقد حُذف من التداول. هذا الاقتراح قدمه رجل من لبنان سبق عصره فلقي حتفه، وتعود ذكراه السابعة والثلاثون في السادس عشر من آذار (مارس) الجاري. ولعل إعادة طرح هذا الاقتراح بعد مرور 66 عاماً عليه، تتناسب مع الهبة السعودية التي بلغت ثلاثة بلايين دولار، وقد أصبحت في حساب الجيش اللبناني. * كاتب وصحافي لبناني