سوق الأسهم السعودي ينهي آخر جلسات 2025 مرتفعا 109 نقاط    نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء جمعية البركة الخيرية    59 رخصة تعدين في 2025 واستثمارات ب43.5 مليار ريال تؤكد انتقال القطاع من الإمكان إلى الفعل الاقتصادي    الخارجية الكويتية: أمن المملكة وأمن دول مجلس التعاون يُعدّان ركيزة أساسية من ركائز الأمن الوطني الخليجي    سيرة من ذاكرة جازان.. الشاعر علي محمد صيقل    تغريم ديزني 10 ملايين دولار بتهمة انتهاك قوانين حماية خصوصية الأطفال    صادرات الخدمات تسجل 58.2 مليار ريال سعودي في الربع الثالث من 2025م    جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية توقّع عقود اعتماد برامجي مع تقويم التعليم والتدريب    تكليف عايض بن عرار أبو الراس وكيلاً لشيخ شمل السادة الخلاوية بمنطقة جازان    مشاريع ومبادرات تنموية سعودية تغذي شريان التنمية في قلب اليمن    انخفاض أسعار النفط    "مدن" وهيئة التراث توقّعان اتفاقية تعاون لدعم الصناعات الحرفية ضمن مبادرة "منتج حرفيون"    حرم أمير منطقة الرياض ترعى حفل زفاف 176 من فتيات جمعية "إنسان"    فيصل بن بندر يطلع على جهود "ترجمة".. ويعزي مدير الأمن العام    مجلس الوزراء: التصعيد في اليمن لا ينسجم مع وعود الإمارات    أمير الباحة يشدد على تعزيز التكامل بين الجهات الحكومية والخدمية    استعراض أهداف "محبة للتنمية الأسرية" أمام سعود بن بندر    ترمب يؤكد بدء إعادة إعمار غزة قريباً و«إسرائيل» تواصل خروقات وقف النار    المملكة بوصلة الاستقرار العالمي وقطب الدبلوماسية    مندوب الصومال في مجلس الأمن يحذر: اعتراف إسرائيل ب«أرض الصومال» يزعزع القرن الأفريقي    "السنغال والكونغو الديمقراطية وبنين" إلى ثمن نهائي أمم أفريقيا    تغلب عليه بهدف وحيد.. ضمك يعمق جراح الأخدود    الأهلي يتغلب على الفيحاء بثنائية    مشيداً بدعم القيادة للمستهدفات الوطنية..الراجحي: 8 مليارات ريال تمويلات بنك التنمية الاجتماعية    تعديل ضريبة المشروبات المحلاة    الاستفادة من البيانات لرفع مستوى الكفاءة.. المؤشر الوطني «نضيء» يدعم الحراك التنموي    ضبط 594 كلجم أسماكاً فاسدة بعسير    مجلس الوزراء: المملكة لن تتردد في اتخاذ الخطوات والإجراءات اللازمة لمواجهة أي مساس أو تهديد لأمنها    والد الفريق محمد البسامي إلى رحمة الله    «وطن 95».. تعزيز جاهزية القطاعات الأمنية    رغم استمرار الخلافات حول خطوات اتفاق غزة.. تل أبيب لا تمانع من الانتقال ل«المرحلة الثانية»    قلق أممي على المحتجزين والجرحى بالفاشر    مشاركة 25 فناناً في ملتقى طويق للنحت    رياض الخولي بوجهين في رمضان    التوازن والغياب!    فلما اشتد ساعده رماني    باحثون يطورون نموذجاً للتنبؤ بشيخوخة الأعضاء    مسحوق ثوري يوقف النزيف الحاد في ثانية    الميزة الفنية للاتحاد    إذاعة القرآن.. نصف قرن من بث الطمأنينة    «مساء الحِجر».. تاريخ العُلا    الاتحاد وانتصارات الدوري والنخبة    تعرف على مستجدات لائحة تقويم الطالب وأدلتها التنظيمية    خسارة ثقيلة للأهلي أمام المقاولون العرب في كأس رابطة المحترفين المصرية    الاتفاق يوقف سلسلة انتصارات النصر    سر غياب روبن نيفيز عن قائمة الهلال أمام الخلود    محافظ ضمد يزور جمعية دفء لرعاية الأيتام ويشيد بجهودها المتميزة    أمير الرياض يعزي مدير الأمن العام في وفاة والده    جيل الطيبين    حين يغيب الانتماء.. يسقط كل شيء    «الهيئة»أصدرت معايير المستفيد الحقيقي.. تعزيز الحوكمة والشفافية لحماية الأوقاف    ولادة مها عربي جديد بمتنزه القصيم الوطني    رجل الأمن ريان عسيري يروي كواليس الموقف الإنساني في المسجد الحرام    الدردشة مع ال AI تعمق الأوهام والهذيان    انخفاض حرارة الجسم ومخاطره القلبية    القطرات توقف تنظيم الأنف    «ريان».. عين الرعاية وساعد الأمن    دغدغة المشاعر بين النخوة والإنسانية والتمرد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة قش.. أطياف مزرعة
نشر في الحياة يوم 13 - 10 - 2015

من بقايا علف الماشية تجد العصافير بغيتها في أعواد القش. تلتقطها من الحظائر ثم تطير بها إلى الأشجار المجاورة فتبني منها أعشاشها. تحمل الأغصان بيوت القش فترة من الزمن ثم تصبح البيوت خاوية بعد أن تستكمل الحياة دورتها في الأبناء. أقف أنا بين فترة وأخرى مراقباً دورة القش. في البدء، يأتي العلف من حقول بعيدة على هيئة حزم مضغوطة ثم تُفكك حسب الهمة والرغبة والمزاج بين الأغنام. بين قطعان البهائم التي لا ذاكرة لها تجاه ما حدث في الماضي، ولا خيار لها فيما يقرره مالكها بعد حين.
بعد ذلك تأتي العصافير سراعاً لبقايا العلف فتنقل منها ما يناسب شؤونها القادمة في أحضان الأشجار التي يمكن رؤيتها بالعين من أركان المزرعة. ومعلوم أنها تعمل منها بيوتاً جميلة لصغارها قبل أوانهم، لكن الأعشاش تُهجر بعد فترة، وفي هذه الأثناء يهطل المطر أو تعصف الريح فتخرب الأعشاش وتتناثر الجذاذات في الهواء على فترات. وحسب المتوقع، يعود منها جزء إلى الحظائر فيختلط بقش جديد، عندئذٍ أفقده كلياً، وكما في السابق أعلم أنني لن أجده مهما نقبت في الأرض. ثم ألحظ أن الروث والجذاذات الجديدة يختلط بعضها ببعض، فتنبت من هذا الكتلة الداكنة حركة صغيرة تافهة لا تلبث أن تكبر شيئاً فشيئاً حتى تصبح بحجم حشرات سوداء تنتشر في الأرض.
وهنا، أرى لزاماً أن يتقدم في الحكاية الأصل ما يقال عن صاحب المزرعة في مبتدأ حياته كمزارع. كان أبوه الذي قيلت عنه أشياء غير مؤكدة حول معرفته بالكهانة والضرب بالودع، يقرأ في آثار البهائم قصص الروث والجذاذات السوداء النتنة، فانقاد ذات ضحى إلى فكرة استقراء مرابض الغنم فوجدها تضمر من تلقاء نفسها كلما اضطروا إلى نشر الغنم خارج حظائرها جهة المراعي. وحالاً، خطرت بباله الضروع في القحط، وتوجس شراً من الآتي. وقيل إنه سأل نفسه: ما الذي يحول بينه وبين أن يكون أكثر بؤساً لو حدث شيء من هذا القبيل؟ خشي أن ينتقل الضمور من المرابض إلى العائلة، فقرر هجر الصحراء والفرار بمواشيه وأبنائه إلى حظائر جديدة للأغنام على تخوم المدينة.
وفي غضون سنوات قليلة أصبح ابنه أحد أكبر ملاك المواشي، ومزارعاً مرموقاً في الآن نفسه. الهمس البعيد يقول إن خطة الروث والجذاذات لم تزل تعمل في العائلة، ولكن في الخفاء، الأب فقط هو الذي يعرف الخطة، أما البقية فيراقبون بحبور تصاعد رخاوة العيش الجديد للعائلة كما أراقب أنا عودة القش إلى المزرعة على هيئة كناسة تشكلها الريح في الطريق.
وفي وسط المزرعة تكتمل الدورة بعد اختلاط التربة الرطبة بأشلاء العلف الجديد، وطبعاً بعد قيام الحشرات إياها. إنها الخطة نفسها التي تشكلت منها العائلة باستثناء بعض العيوب الصغيرة في الحبكة نظراً لبعض التغيرات الحتمية. في ما يتعلق بعفونة التربة في المزرعة، عادة ما يستنفر صاحب الحظيرة عماله الأشداء فيأتون بجرافاتهم اليدوية فيزيلون على مدى يومين عفونة العالم القديم ويضيفون للمكان رملاً جديداً وعلفاً جديدا. أما العفونة الأعمق، تلك التي لا تصل إليها الجرافات اليدوية، فبقدر ما أستطيع أستمر في مراقبة ما يحدث.
لكني في ذات الآن أكون قد امتلأت بالمشهد من جهة أهم شيء فيه من وجهة نظري آنذاك، من جهة القش الذي لا يفقد وظيفته في الحياة على الإطلاق، القش العظيم في الواقع، من السهل على الطيور أن تحمله لغاياتها المعروفة، من السهل على الغصن أن يتنصل منه في ضربة ريح أو رشقة مطر، لا يمانع أن يعود إلى مكانه الأول مهما بعدت المسافة ومهما تغير لونه وفسدت رائحته.
سيظل رغم كل شيء القش الذي لا يفقد وظيفته إلا أن يحترق بالنار أو يدفن تحت الأرض. على مدى شهور طويلة لم يلفت نظري من مزرعة ذلك الرجل المزارع، سيد المواشي الشهير، إلا الشيء الذي لا يعيره انتباهه للحظة، القش النافل، القش الأهم من مزرعته في الحقيقة. لقد أثرت بي وظيفته أكثر بكثير من مالك المزرعة وتاريخ أسرته وشهرته الضاربة في تربية الأغنام وبيعها بأسعار مرتفعة جداً في السوق.. ولطالما تساءلت كلما فكرت في جشعه واستماتته في جني المال: ما هذه الحياة الرخيصة؟ أما العصافير الجليلة فكانت تمر من فوقنا بفضول طيور مولعة بتصيد القش وبمراقبتنا. حدثت هذه القصة قبل أكثر من عقدين في منطقة كنت أزورها تباعاً فترة من الزمن، وقد ساقني فضول اكتشاف المنطقة إلى الطريق الوعر المؤدي إلى المزرعة.
قبل الخروج كنت مدفوعاً بملل العشيات الفارغة أبحث عن أي شيء ينتشلني من سكوني شبه الفولاذي في مكان إقامتي الموقت. كانت ساعات ما بعد الثالثة مساء ترتمي مثل أواني نحاسية في وقت فراغي أكثر من سواها فتحدث ضجيجاً لا يطاق، وقد جربت أشياء عديدة لتلطيف وقعها علي لكن لم يكن من بينها الخروج بالسيارة والضرب في النواحي القريبة لتهجي المكان في دائرة أكبر.
علقت السيارة في كثيب رملي تكوم بفعل الرياح على طريق مهجور فجاء أحد عماله فسحب السيارة بأخرى رباعية الدفع. ومن هنا بدأت بيننا مودة ليست عميقة وإنما كافية لأعاود الزيارة مراراً دخولاً من البوابة الرئيسة على الطريق المستخدم طوال الوقت. بعد سلسلة من الزيارات أوكلني إلى رغبتي في المجيء والتجول في أركان المزرعة في أي وقت، ولم يكن ذلك أمراً استثنائياً فقد كانت المزرعة على أي حال خالية من أجواء الصخب العائلي، بل كانت مهجورة من هذه الأجواء، حيث لم تحظ خلال وجودي فيها بمجيء أحد سواه هو وعماله ثم أنا مع حضور متقطع لبعض الشاحنات المخصصة لنقل المواشي والعلف، لذلك كانت أشبه بمحمية ذكورية خالصة يغادرها الجمع عند حلول المساء باستثناء الرعاة والمكلفين بالزرع وشؤونه. حتى العصافير التي بدأت أوثق صلتي بها لم تكن تطيل التحويم في تلك اللحظة بل كانت تبكر في مفارقة المكان مجموعة في إثر أخرى حتى يخلو منها تماماً. لكن القش يبقى على حاله يعاشر التراب طوال الليل، مفرقاً بين الأظلاف، متقلباً بين دويبات الأرض التي تنشط عند اكتمال المساء، تنعكس على بعضه نُسال ضوء ساقط من نجوم منتصف الليل أو نور القمر في أوجه، تصيبه أحياناً نداوة السحر فيخشع قليلاً منتظراً لحظة الشروق البعيدة. إنه في وضع كهذا ليس العشب في ذروة اخضراره وقوته واتصاله بعمق الأرض، ليس جزءاً من حقل واسع مكتظ بالسوق والأوراق والثمار، كما هي عادة الحقول قبل أن تحصد، بل إنه لا يمثل من الحقل إلا معنى التبدد والتناثر في الأمداء، ولكنه رغم ذلك يبذل نفسه في سبيله الذي لم يختر سواه، أن يكون بقايا في كل مكان تقريباً، وبريداً يومياً في مظاريف الريح إلى كل الجهات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.