من هذا – الشباك – الذي نطل منه على ذكريات مضت وقد حرصت على أن تكون لأناس قد كانت لي معهم مواقف مباشرة لا عن شخصيات لها مكانتها الفكرية والأدبية ولكن لا يوجد لهم مواقف معي شخصياً، لهذا أسجل اعتذاري إن أنا لم أذكرهم. ثانياً هذه الذكريات - عن الذين رحلوا إلى بارئهم وليس عن من يعيشون معنا متعهم الله بالصحة والعافية وطولة العمر. كنت أراه من البعيد في ضحوية الأيام في دكان صديقه محمد السطوحي رحمه الله بمشلحه الأسود الخفيف وبثوبه الأبيض الأنيق وبتلك "الزرائر" من فصوص الالماس.. كان يعطيني انطباعاً بأنه من أولئك الذوات – المتجهمين – في حياتهم. وتمضي الأيام والسنون وأقوم بزيارة له في بستانه – الأخوين – برفقة السيد عاصم إبراهيم هاشم رحمه الله وكان آتياً أيامها من تبوك حيث كان مديراً لشرطتها عندما دعاه على مأدبة عشاء تكريماً له.. يومها فوجئت بشخصية مختلفة عن تلك التي رسمتها في مخيلتي عنه، كان رجلاً سمحاً كريماً بل وحصيفاً.. وكانت المفاجأة الكبرى لي عندما راح ممسكاً بآلة العود ليعزف عليه من ذلك النوع المغرق في القدم من العزف بتلك القصائد التي يمتلئ بها ديوان العرب القديم بتلك الفرائد من الأغنيات. بعيداً عن سفاسف الكلام ورخيصه. كنت أتابعه وهو يخرج من مقام السيكة إلى البنجكه ومن ثم يدخل في مقام الحجاز ليهبط إلى مقام البيات في مقدرة عجيبة فهو لا يعترف بأن يغني أغنية ثم يتوقف ثم يقوم "بدوزنت" العود ليصل إلى المقام الآتي بل تراه يواصل غناه في أكثر من أربع أغاني دفعة واحدة وكل أغنية تكون من مقام مختلف دون حدوث أي خلل في الأداء أو نشازاً في اللحن وتلك قدرة لم أرها أو أسمعها من آخر. كان حريصاً على أن لا يمارس تلك الهواية الاحترافية خارج محيطه – الاخواني – وفي بستانين فقط هما: "بستان الأخوين" الواقع خلف البقيع والذاهب إليه يسلك "درب القبرين" الضيق الذي كان قبل دخول القبرين داخل البقيع بعد التوسعة والآخر بستان الجزع في قباء والباقي منه جزء بسيط بعد أن شق طريق قباء الحالي. لقد كان السيد ابراهيم حمزة الرفاعي نجماً في ذلك المجتمع المتراص والذي كان يحرص على الانسياق ضمن تقاليد يراها عزيزة لا يمكن تجاوزها وعادات ينصاع لها بكل احترام. لقد كان واحداً من أولئك الذين يعطونك اقتناعاً بأنهم من يتأففون من وضع أيديهم في أي شيء.. لكنك تصاب بالدهشة عندما تراه في بستان الأخوين يتفقد "قشع" الورد أو شجر الليمون – أو أن يمسك أحياناً بالمسحاة – ليعطي لذلك "الخادم" درساً كيف يحول الماء من ذلك الحوض إلى الآخر دون أن يكسر جريان الماء – أو عقم الحوض أو جدار قنطرة الماء فتشعر بأنك أمام خبير في زراعة الأرض وفلاحتها. ذات يوم قلت له ونحن نتحلق حول مائدة الطعام التي أقامها في – الأخوين – ياسيد أراك لا تأكل ولكنك مشغول بنا: ضحك.. وهو يقول عندما تأكلون كأنني أنا الذي أكلت.. كأنه كان يخفي مما يعاني لأكتشف بعد ذلك بأنه يعاني من مرض يمنعه من تناول الطعام "الدسم". لقد كان رجلاً من عصر الباشوات بحق.. ذلك العصر المهيب الذي له بهاؤه ورونقه وارستقراطيته اللافتة.. كان احساسه مرهفاً رهافة صوت ذلك القمري الذي نسمع هديله من على شجرة الفاغية في "الاخوين" أو ذلك "النغري" على عريشة العنب في "الجزع". لقد كان واحداً من أولئك الذين يتعاملون بحرفية اللحظة التي يعيشونها بكل ما فيها من وجدان فهو من ذلك النوع من الناس الذين لا يدخلون في صخب الحياة ومشاكساتها وهو من الذين يأخذون منها برفق ويدعون ما بها برفق.. يتعامل بشيء قريب من – الاكتفاء – ولكنه ليس – الترفع – وان بدا عليه ذلك. ومضت الأيام.. وجرت مياه كثيرة تحت الجسر لأنقطع عنه وتباعدت المسافة في دوامة الحياة.. لا أعرف بانه يعاني من مرض عضال.. ليذهب بعدها الى الرياض لتلقي العلاج – المرير – من ذلك المرض اللعين الذي لم يدعه حتى آخر رمق فيه ينبض بالحياة.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.