بعد أن شاهدنا فيلم «استهلال» لكريستوفر نولان واقتراحه لفرضية غربية تتلاعب بعقول وأحلام البشر، يعيدنا فيلم «شيفرة المصدر» إلى ذات المضمار، موجدا فرضيته الخاصة ليطرح الأسئلة عن حدود العلم وإمكاناته، وعن كيفية تسخير هذه الإمكانيات لمصلحة الخير والدفاع عن الأبرياء، وعن أخلاقية التجارب العلمية وتطبيقها على الإنسان بوصفه فأر تجارب، وكل ذلك بالتحميل على مقولات إنسانية عن ذاتية الإنسان وعواطفه ومشاعره. 8 دقائق لإنسان ميت تنقذ آلاف الأحياء تبدأ أحداث الفيلم بمشهد داخل قطار ركاب مزدحم في طريقه إلى مدينة «شيكاغو» الأمريكية، حيث يستيقظ «كولتر ستيفنز» وهو طيار في الجيش الأمريكي مات خلال مهمة عسكرية بعد أن تحطمت طائرته في أفغانستان، ليجد نفسه في ملابس مدنية وجسد شخص آخر وهو «شون» الذي يعمل مدرسا للتاريخ، وبجواره فتاة شابة «كريستينا»، التي تؤكد له اقتناعها بآرائه في محاولة للتودد إليه وإثارة إعجابه، وهو ما سينشئ علاقة حب بينهما، ثم بعد ثماني دقائق ينفجر القطار، ليكتشف أن تلك الدقائق هي تجربة عملية لبرنامج حكومي يهدف إلى تعقب الحوادث الإرهابية، بعد وقوعها للتعرف على مرتكبها، ومحاولة منعه من القيام بعمليات أخرى، ووضع هذا البرنامج المسمى «شيفرة المصدر» عالما مستندا إلى فرضية علمية تقول إن عقل الإنسان يظل قادرا على العمل لمدة ثماني دقائق بعد وفاته، وبالتالي بالإمكان صنع عالم مواز، يعيش فيه الشخص موضع التجربة داخل ذاكرة الشخص المتوفى، وهنا مهمة «كولتر» في أن يحاول من خلال هذه الدقائق الثماني التعرف على الإرهابي الذي فجر القطار، لمنعه من تفجير قنبلة أخرى أكثر ضررا في مدينة شيكاغو، وفي كل مرة يفشل فيها الضابط «ستيفنز» في التعرف على القاتل، يتم إرساله لثماني دقائق أخرى ليتابع أشخاصا عدة داخل القطار في محاولة لجمع أدلة وتقصي الحقائق وراء الشخص المسؤول عن هذه التفجيرات، حتى يستطيع أن يتعرف إلى منفذ العملية. لكن وعلى منحى آخر يعاني ستيفنز في هذه التجربة من جهله حقيقة نفسه، فكل ما يتذكره هو تحليقه بطائرته في مهمة داخل أفغانستان، لكنه الآن يجد نفسه مكبلا على كرسي في إطار حديدي وموصولا بأسلاك وأجهزة، يتواصل من خلالها مع المسؤولة عن التجربة «كارول جودين»، التي تكشف له بعد تعاطفها معه بعض المعلومات التي يستعيد من خلالها ذاكرته وعلاقته بكل ما يحدث حوله، وتستنهض فيه غيرته لإنقاذ الناس خصوصا أن تزامن الانفجار يأتي مع مرور قطار آخر في الاتجاه المعاكس، فيدمر كل الدلائل لكشف خيوط هذا الحادث. ومن هنا سنعيش أجواء التشويق والإثارة بتنامي الحدث الدرامي في محاولة كسب الوقت وإبطال القنبلة الموقوتة بجهازي موبايل، والأهم معرفة الشخصية الإرهابية المسببة لتلك الكارثة والمخططة لتدمير آخر ينهي تماما مدينة شيكاغو. ليتضح في النهاية التي جاءت مفتوحة وغير منطقية بعض الشيء، أن الإرهابي هو مواطن أمريكي يرى أن العالم الذي نعيشه هو الجحيم بعينه، وأن البشر يستطيعون أن يحيوا حياة أفضل من تلك التي يعيشونها في حال اتحادهم، ولكن هذا يستلزم أن يتحول العالم أولا إلى ركام، حتى يستطيع البشر أن يتحدوا من أجل بنائه مرة أخرى. دراما إنسانية وتكامل في الإبداع يفارق الفيلم الأجواء الهوليودية المعروفة لأفلام التشويق والإثارة، وإن كان يقاربها من حيث فكرة البطل المنقذ وسماته، ليقدم جرعات من دراما إنسانية كانت المحور الرئيسي الذي ركب عليه كاتب السيناريو «بن ربيلي» مقولات الفيلم بالتركيز على الصراع النفسي للشخصيات والتعاطف مع الحالة الإنسانية، وقد جاء السيناريو جيد السبك وبحرفية عالية للكاتب الذي قدم العديد من الأعمال التليفزيونية الناجحة مثل «الساعة»، وقد عكست رؤية المخرج البريطاني المبدع الشاب «دانكان جونز» تلك الحالة الدرامية الإنسانية من خلال اللقطات القريبة التي تظهر أجواء صراعات الشخصيات النفسية وعوالمها الذاتية، ليقدم فيلما سمته الأساسية الرؤية الإخراجية الخلاقة التي يتمتع بها هذا المخرج الشاب في ثاني تجاربه، والذي لفت انتباه النقاد منذ فليمه الأول «القمر» وذلك عبر الاستخدام المتميز لحركة الكاميرا السريعة والبطيئة وكادرات اللقطات، وبتوظيف مدروس للمونتاج والمؤثرات البصرية والسمعية، وبالتحميل على أداء نخبة من النجوم الذين برعوا في مجال أفلام التشويق مثل النجم الشاب«جاك جليلينهال» الذي اشتهر بدوره في فيلم «دوني داركو»، و«زودياك» مع المخرج «ديفيد فينشر»، والممثلة «ميشيل مونجان» بطلة فيلم «عين النسر»