حالتان تصدق فيهما الديموقراطية وتتحقق فيهما المساواة بين جميع الناس بلا أدنى اختلاف: حالة المرض وحالة الموت، فهاتان الحالتان لا ينجو منهما أحد، مهما بلغت قوته وثراؤه ومكانته، لابد له يوما ما من الخضوع لهما والنزول عند حكمهما. وإذا كان من المتعذر معرفة ردة فعل الميت في حالة الموت، فإن ردة فعل المريض في حالة المرض ليست متعذرة، ردود أفعال المرضى تجاه ما يصيبهم من آلام ومعاناة متاحة يمكن مراقبتها والاطلاع عليها. من صفة ردود أفعال المرضى أنها ليست متماثلة، فهي تختلف بحسب اختلاف شخصياتهم وتفكيرهم وثقافتهم، بعضهم يفضل الصمت أمام المرض والصبر عليه بهدوء، وبعضهم عكس ذلك تجده لا يكف لسانه عن الشكوى والتذمر، وبعضهم يفضل أن يمزج معاناته بالتهكم والنكات الساخرة يخفف بها شعوره بالألم، لكن ألطفهم في ردة الفعل تجاه المرض هم الشعراء، فالشاعر حين يمرض لا تمرض قريحته، بل تنشط فينقش معاناته مع المرض في أبيات يتغنى بها تلهيه عن الألم وتضفي على روحه شيئا من برد الفكاهة. ولعل أشهر من وصف معاناته مع المرض من الشعراء، المتنبي في قصيدته الذائعة عن الحمى، وبعض الشارحين لشعره يقولون إنه كان مصابا بالملاريا، التي من صفتها ارتفاع درجة حرارة المريض بها أثناء الليل: وزائرتي كأن بها حياء،،، فليس تزور إلا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا،،، فعافتها وباتت في عظامي أراقب وقتها من غير شوق،،، مراقبة المشوق المستهام ويصدق ووعدها والصدق شر،،،إذا ألقاك في الكرب العظام خالد الفيصل، شاعر آخر مريض، تكررت إصابته بالزكام فما وجد سلوة تخفف من معاناته سوى الشعر، فأخذ يصف ضيقه (بالزكمة)، التي وإن كانت متاعبها لا ترقى إلى شدة الملاريا، إلا أن تكرر الإصابة بها جعلها تبدو (ثقيلة دم) مزعجة، فضاق بها كما ضاق من قبله المتنبي بزيارة الحمى: تجيني على موعد ومن غير موعد جت،،، وأنا ما دعاني للوصل شوق مشتاق تجيني متى شاءت لها كل وقت وقت،،، تهز البدن والروح ما دونها واقي وإذا ما هقيت إني من معاشرتها مت،،، تفهق، وأشوف إنه بقى بالعمر باقي وفاها معي يذبح ورا ما تخون وخنت،،، أباسمح، جعله أتلى مواعيد الأشواق محي الدين عيسى، هو الآخر شاعر مريض، أصيب بالتهاب اللوزتين فصب مشاعره المتألمة في أبيات طريفة يستجير فيها مما سببه له الالتهاب من ألم في الحلق ومن حمى تصحبه: من التهاب اللوزتين في أبيات طريفة تقول: سدتا حلقي كسد،،، شيد بين الصدفين فإذا رمت طعاما،،، لقمة أو لقمتين كنت كالبالع موسى،،، حددت من طرفين