يتم تداول هذا المفهوم «الخير» كثيرا في شهر رمضان المبارك باعتباره شهر الخير والرحمة، وذلك أمر مبرر إذا كان الهدف من ورائه ترسيخ هذا المفهوم ليصبح طابعا دائما ومستمرا يتعلمه الناس ليتحول إلى سلوك مستمر في هذا الشهر وفي غيره من الشهور. حينذاك يصبح لهذا الشهر مردوده الحقيقي في النفس وتهذيبها وتعويدها على الطباع الخيرة. الخير إذا ليس أمرا موسميا يمارس في رمضان ثم يتم التنازل عنه بعد ذلك. المعنى الذي تعلمناه صغارا المتمثل في أنه إذا سبك أحد في رمضان فعليك أن لاترد عليه الشتيمة ولكن عليك أن تقول «اللهم إني صائم»، الهدف منه هو عملية تهذيب النفس وترويضها لتتعلم التحكم في الانفعالات وكبح الغضب وتعلم التسامح وسحب وامتصاص غضب الآخرين لتتحول العلاقات إلى علاقات محبة وسلام المستهدف في عدم الرد على الآخرين ليس فقط مجرد نقض الصوم من خلال الشتيمة أو الرد عليها بقدر ما هو التهذيب، ليصبح فعلا دائما وسلوكا مستمرا لايقتصر فقط على شهر رمضان. الأمر الحاصل لدينا ولشديد الأسف في العلاقة مع هذا المفهوم لا يمت لعلاقة التهذيب والديمومة فيتحول فعل «الخير» إلى مجرد طقس من الطقوس المرتبطة بهذا الشهر وبعده تعود حليمة إلى عادتها القديمة. أمر آخر مرتبط بهذا المفهوم وهو اقتصار «فعل الخير» على ممارسات محددة كمشاريع إفطار صائم أو إعطاء الصدقات التي تصرف عليه ملايين الريالات على مستوى المملكة ولكنه ليس بالضرورة يذهب فعلا إلى المستحقين والمعوزين بقدر ما أنه ممارسة روتينية غير مدروسة ومما تخدم العمالة السائبة وغير الشرعية أو إلى عابري الطرق بغض النظر عن مدى حاجتهم لها. ولو وظفت مثل هذه الأموال في الاتجاهات السليمة لخلقت العديد من المشاريع الدائمة التي تعود بالنفع على المجتمع بشكل دائم. والأكثر أهمية من ذلك هو اقتصار فعل «الخير» في أمور محددة موروثة من قديم الزمان رغم تغير الأحوال والظروف. الناس تنسى أن التواضع وكبح الذات المغرورة هو فعل خير وأن الابتسامة والبشاشة في وجوه من تقابل هو فعل خير وتقديم النصيحة بكل هدوء واتزان ونبذ استخدام العنف الجسدي أو اللفظي في الأسرة وفي خارجها هو فعل خير وإيجاد عمل لعاطل عن العمل هو فعل خير وإحقاق الحق بدون مواربة هو فعل خير والإقلاع عن أي عادة سيئة بشكل دائم هو فعل خير، الخير ليس مقصورا على صورة من الصور بهدف الشعور بطمأنينة مؤقتة لإقناع الذات بتأدية الواجب المناط بها. من ضمن الأمثلة الحية على فعل الخير الدائم والمستمر هو ما تقوم به جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي «كلانا» والتي يرعاها الأمير عبدالعزيز بن سلمان. التي وفرت فرصة للجميع لممارسة الخير بشكل دائم ومستمر وذلك من خلال تبرع بمبلغ زهيد لايتجاوز 12 ريالا في الشهر الواحد عبر إرسال رسالة إلى رقم (5060) إما فارغة بتبرع واحد مقداره 10 ريالات أو بإضافة رقم 1 ليكون التبرع مستمرا على مدار العام وبمبلغ زهيد يتم صرفه في أي مكالمة عادية لأحدنا. لقد أسهمت تبرعات هذه الرسائل في إجراء أكثر من 200.000 جلسة غسل دموي خلال العامين الماضيين وقد خدمت هذه الجمعية أكثر من 700 مريض بتكلفة مقدارها ثمانون مليونا وخمسمائة ألف ريال، لكن هذه الجمعية تواجه زيادة سنوية في أعداد المرضى بهذا المرض العضال مقدارها 9 % سنويا حيث ارتفع عدد المرضى إلى 11 ألف مريض: كلهم بحاجة لدعمنا وتبرعنا الدائم لمواجهة نفقات الغسل الكلوي وقيمة الأدوية وتكاليف الرعاية الطبية. إنها مهمة جسيمة تواجهها هذه الجمعية ونحن في بلادنا نرفع شعار «الخير» وهل هناك أفضل من إعادة الحياة إلى مصاب بهذا المرض وبتكلفة زهيدة لكنها لو قدر أن شارك الناس معظمهم ولا أقول جميعهم بها لاستطعنا مواجهتها. ولا ننسى هنا عملية التبرع بالأعضاء في حالة الموت الإكلينيكي والتي تجعل الخير المقدم مستمرا حتى بعد الوفاة. هذه الجمعية هي مثال حي لفعل خير مستمر ونتمنى أن تنشأ جمعيات أخرى لمحاربة مرض السرطان وغيره من الأمراض المستعصية من أجل مساهمة الجميع في فعل الخير الدائم والنافع والمدروس مصحوبا بنظرة شاملة تهذيبية لمفهوم الخير.. فهلا فعلنا الخير في رمضان وفي بقية العام؟!. [email protected]