الأكيد أن مجلس الشورى يعيش اليوم مرحلة جديدة تحمل بلا شك بصمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز، إذ لم يعد الخطاب الملكي السنوي جزءا من برنامجه أو سمة ثابتة لأعماله، بل أصبح أفقا جديدا يتطلع الملك فيه إلى مشاركة فاعلة للمواطن في التنمية، بتفعيل دوره في مسؤولية صناعة القرار عبر دوائر العمل المؤسسي. ولا جدال هنا على أنه بات واضحا أن رؤية الملك في الإصلاح السياسي والإداري تتكامل مع الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ودعمه للعمل المؤسسي يبرهن على تلك الرؤية. ومن المنطقي الإشارة إلى أن هذا الانفتاح والمناخ الحالي يتطلب وعيا من المواطن بمسؤولياته، والأفق الذي يتحرك فيه، ويتطلب كذلك توسيع الدائرة، ودعم مؤسسات المجتمع المدني، لإظهار رأي الفرد ومشاركته، حتى يصبح العمل المؤسسي العنصر الأساس في الحياة السعودية. للملك بوصفه رئيسا لمجلس الوزراء التصاق كبير بمجلس الشورى، كما أن نظامه الأساس ينص في المادة الخامسة عشرة «يبدي مجلس الشورى الرأي في السياسات العامة للدولة التي تحال إليه من رئيس مجلس الوزراء، والملك هنا رئيس مجلس الوزراء، مناقشة الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإبداء الرأي نحوها، دراسة الأنظمة واللوائح والمعاهدات والاتفاقيات الدولية والامتيازات واقتراح ما يراه بشأنها، تفسير الأنظمة، مناقشة التقارير السنوية التي تقدمها الوزارات، والأجهزة الحكومية الأخرى واقتراح ما يراه حيالها. اليوم ومن منبر الشورى سيكون خطاب الملك إلى الأمة تكريسا لتلك المرحلة، بوضعه برنامج الحكومة أمام الأعضاء، واضعا إياهم في قمة المسؤولية. إن التجربة الفريدة للملك عبد الله بن عبد العزيز في القيادة السياسية والتنموية، أثمرت عن تيار تنظيمي لجيل من السعوديين قابل للتفاعل مع التغيير، مع سلسلة من الأنظمة التي طرحها أخيرا بعد طول مراجعة ودراسة وروية، فالبلاد أصبح لديها نظام أساس يقوم على دستور خالد، ونظام لمجلس الشورى يعنيه الحاكم على التبصر بأمور الشعب ومصالح البلاد، ونظام للمناطق يوثق العلاقة الإصلاحية والجغرافية والتنموية. خطاب الشورى كرس الملك في خطابه أمام الشورى خلال السنوات الخمس الماضية ترتيب الأولويات وفق فكر ومنهج وأجندة وبرنامج حكومته ثانيا، مستهدفا في كل مرة تأصيل ثقة المواطنين في قيادتهم، وهم بدورهم أي المواطنين لا يجدون سوى التفاعل مع مضمونها الصريح والصادق، إذ يدركون أن خطابه صادر من خبرة وإدراك لجميع المتغيرات على الساحتين الداخلية والخارجية. وعبر الملك عن ذلك جليا في وثيقة خطاب السنة الثانية من الدورة الرابعة: «لقد عرفتموني وعرفتكم خلال السنة الماضية، وقد كنتم على الدوام صادقين أوفياء للعهد، وستجدونني إن شاء الله مخلصا لديني ثم لوطني صادقا معكم وفيا للعهد، ستجدونني معكم في السراء والضراء أخا وأبا وصديقا وفيا». وليست مبالغة في الإشارة إلى أن آلافا من السعوديين سيتحلقون اليوم أمام شاشات التلفاز للاستماع إلى ملكهم الذي يكنون له بمختلف فئاتهم وطوائفهم احتراما وتقديرا. احترام دولي اليوم سيجدد الملك عبد الله من منبر الشورى للمواطنين أن السياسة الخارجية السعودية التي بصمها منذ استلام مقاليد الحكم، وتتمثل بالتناغم الخلاق بين الحزم في المواقف الثابتة والتفاعل مع مصالح الأمتين العربية والإسلامية بما لا يؤثر على زخم تلك الثوابت وثمارها المرجوة. وتلك البصمة جنت للمملكة سمعة دولية وضعتها على خارطة الدول المؤثرة على الساحة الدولية، وما اختيار الملك ضمن قائمة الدول العشرين ودعوة ملكها إلى اجتماع الزعماء إلا دليل على تلك المكانة. ولأن الملك يدرك تماما مسؤوليته بأن بلاده هي مهبط أفئدة المسلمين، فهو يستثمر وجوده في مقر صنع القرار لإيصال رسالتهم إلى كل العالم، بأن الإسلام دين السلام والخير والعطاء. الاقتصاد الدولي حينما وقف الملك عبد الله بن عبد العزيز، متحدثا بالنيابة عن الدول العربية والنامية أيضا في قمة دول العشرين، كان يدرك مسؤوليته، بوصفه قائدا عربيا مسلما، فسمعه القادة الذين التقوا به ويكنون له الاحترام ويقدرون شجاعته وصراحته. لقد بنى الملك عبد الله رؤية واضحة لبلاده في التعاطي مع الأزمة المالية، فهو من جهة حصن اقتصاد بلاده، ومن جهة أخرى لم ينس دورها لتكون إحدى الدول التي يمكنها أن تساهم في التخفيف من آثارها. واليوم على خطابه سيكون الملك عبد الله أكثر إصرارا على تأكيد فكره ورؤيته، فهو مطلع على تفاصيل دقيقة لخارطة الاقتصاد العالمي، وهو يقرأ ذلك بعين ثاقبة مستشرفا مستقبله، وسيؤكد للأمة بعد مرور عامين من الأزمة العالمية، أن بلاده استطاعت الخروج من النفق المظلم. اقتصاد الوطن اختارت المملكة منذ صدور أول خطة تنمية أن تشجع أفرادها على أخذ أدوارهم في (دولة الرفاهية)، ففي تلك الخطة أناطت به تنفيذ مشاريع البنية التحتية خاصة في قطاع المقاولات الذي شهد نموا سريعا، حيث تولى تنفيذ مشاريع الأشغال العامة مثل الطرق وشبكات المياه والمجاري والشبكات الكهربائية. وبلغ متوسط النمو الفعلي للقطاع الخاص في تلك الفترة 9.6 في المائة، كما بلغت مساهمته في تكوين رأس المال الثابت 44.8 في المائة وفي الناتج المحلي 19 في المائة، وفي الناتج المحلي غير النفطي 5.7 في المائة، وهو حاليا يقود دفة الاستثمار فهو يضع ريالين مقابل كل ريال تضعه الحكومة في الأصول الثابتة وينتج حاليا نحو 200 مليار ريال سنويا. ويعد التحسن المطرد في الكفاءة الاقتصادية للقطاع الخاص سواء الاستثمارية، والإنتاجية، والتنظيمية من أهم السمات المميزة لمنجزات خطط التنمية، وارتفع عدد المصانع من 199 مصنعا في سنة 1970م إلى 3123 مصنعا، كما زادت أعداد الشركات من 923 إلى ما يربو على 9302 شركة. وخلال أكثر من 40 سنة من عمر الاقتصاد السعودي الحقيقي ونعني به ارتباطه بالخطط التنموية، تلقى القطاع الخاص دفعات قوية من الحكومة، ومن الخطة الثانية وحتى الثامنة، كانت هناك قفزات ومراحل تخطاها ليصل إلى المرحلة الأخيرة من المواجهة ألا وهي دوره في «الخصخصة» وتولي الدور الرئيس فيه. وتوسع دور القطاع الخاص وتنوع مجالات إسهامه في المنجزات المحققة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إذ ارتفعت الاستثمارات الصناعية من 2.8 مليار ريال إلى 232 مليار ريال، وبذلك ازدادت القيمة المضافة لقطاع الصناعة التحويلية خلال المدة ذاتها بمعدل نمو سنوي حقيقي مقداره 15 في المائة في المتوسط، ما أدى إلى ارتفاع إسهام هذه الصناعات في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي إلى أكثر من ضعفين. طموحات المستقبل تعود تجربة الشورى كمؤسسة سياسية في المملكة إلى أكثر من ثمانية عقود، على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود. لكن بطبيعة الحال وبسبب ظروف تحديات التوحيد والتنمية ظلت التجربة رهينة المبادرة السياسية من صانع القرار ومتأرجحة، حتى سنة 1993 بصدور أنظمة الحكم الثلاثة، التي فتحت ومهدت إلى ممارسة دوره الطبيعي في صناعة القرار، حتى انتقل من الدور الاستشاري الصرف إلى موقع الشريك، وهو ما أكد عليه الملك عبد الله بن عبد العزيز من خلال افتتاح أعمال السنة الثالثة من الدورة الرابعة لمجلس الشورى. وذلك التأكيد من الملك يحمل في طياته مضامين عدة في مقدمها، الدفع بدوره وتكريس تجربته، أكثر من الإشارة إلى دوره المتوقع في المستقبل. وهكذا وخلال 17 سنة تقريبا من إعادة تشكيله، كان مجلس الشورى هو الأكثر حراكا بين جميع المؤسسات بسبب انفتاحه على المواطنين، وتشكل مجموعة فاعلة من أعضائه تؤمن بهذا الدور والعمل المشترك، وتجاوز العديد من القيود التي تجدد من استقبال القضايا والمواضيع المقدمة من المواطنين، ما أهل الحديث وبصوت عال عن انتقاله إلى مرحلة انتخاب أعضائه مقابل التعيين. وكما يبدو واضحا أن مسألة الانتخاب محسومة، ويجري تداولها في أروقته منذ اليوم الأول لتشكل بصيغته الجديدة، والأكيد أنها محتاجة إلى مزيد من الوقت.