الوطن- السعودية تتضاءل المدينة شيئاً فشيئاً تحت أقدام المسافر، فينظر إليها قبل أن تتقزم وتختفي عن ناظريه تحت السحاب ليفاجأ بأن مدينته أصبحت بحجم علبة سردين، الزحام الخانق فيها لم يخلق أُلفة ومودة بين المتزاحمين، لأن هنالك مفهوما درج في مجتمعه العربي أن القانون لا ولن يحمي المغفلين، مما حدا بالأفراد أن يكون همسهم ريِبة وتبادلهم للنظرات احترازاً ولغتهم مشبعة بالاستظراف المصطَنع، ومشاعرهم مجرد وسيلة تنتهي بتحقيق مصلحة، كل هذا حتى لا يوصف أحدهم بالمغفل فيتجاهله القانون! راحت الأسئلة والأفكار تنهال عليه، حتى أصبح صدره ضيقا حرجا لا مجال لانشراحه بمنظر السحب أمامه، ولم يدرِ هل وجوده بين السحاب حلم، أم إنه قد أفاق للتو من كابوس؟ كيف بالقانون الذي لا يحمي المغفلين، ينجح في حماية المفسدين بكل جدارة؟! هل الفاسد إنسان حريص جدا، يجيد التحايل على القانون بكل حرفية ومهارة؟ أم إنه مجرد مغفل ساذج قد وهبه القانون حق الافتراس؟ كقانون الغاب الذي أعطى الحيوان المفترس حق الافتراس في كل حالاته، سواء كان قادراً أو عاجزاً، وعلى المتضرر "الفريسة" اللجؤ إلى الحفَر والخنادق للاختباء.. أو أن يتعلم فن الفهلوة والتلون والتمويه لتجنب الافتراس قدر المستطاع. وفي بلاد العرب، فالأمر لا يختلف كثيراً، لأن القانون يهب الفاسِد حق الإفساد بغض النظر عن سذاجته أو رجاحة عقله، وبهذا فالفاسد لا يتحايل على القانون إنما يمارس إفساده بِرِعاية القانون! والقانون الذي يهب الفاسد حق الإفساد لا بد أن يترك الباب مواربا ليستطيع الضحية أن يتحلى بشيء من الفهلوة والقدرة على التلون حتى يخلص بعض حقوقه من أيادي المترفين! انقشعت السحب فظهر المُحيط الشاسِع من تحتها أزرق، كمِرآة مصقولة. نظر المسافر فرأى مدينته تحت هذا المُحيط، حيث القوي يأكل الضعيف، والمساحة المفتوحة لا تترك للضعيف مجالاً للهرب أو الاختباء، والانسجام الظاهر يُخبىء تحته صراعاً دامياً يخوضه "المُغفلون" بينما هم يُؤدون أدوار الفهلوة بكل سذاجة، دون أن يُدرِكوا أن القانون لن يُعطيهم حق الافتراس، إنما اقْتِيات رزق الأصغر فقط! هذا الصراع اليومي من الطبيعي أن يخلف وراءه أفرادا مصابين بشتى الأمراض والعِلل، من ضغط وسكر وجلطات وأرق وقلق ووسوسة وعنف أسري ومشاكل أخلاقية، فالأفراد هنا نصفهم يشعر بأنه مغفل، لأن القانون لم يحمه حتى الآن ولن يحميه، والنصف الآخر أرهقته الفهلوة وأتعبه الجري في كل مكان لانتهاز الفُرص المتساقطة من موائد المترفين! لم يستفق صاحبنا من خيالاته إلا على ارتجاج الطائرة وإعلان الطيار عن الوصول. وفور توقف الطائرة أخذ يُلملِم أغراضه للخروج.. مضى على مكوثه في هذه المدينة بضعة أيام، شاهد خلالها مجتمعاً لا يتصنع أفراده الابتسامة، وينطلقون في تصرفاتهم بكل عفوية، لم يجد أحداً هنا يشتري شهادات وهمية، ولم يسمع عن مناقصات تتم في الباطن، لم يُشاهِد تجمعاً لآلاف العاطلين، لم يُصادف شخصاً يبتسم ابتسامة صفراء فيفهم منها الآخر أن المعاملة لن تتم إلا برشوة معتبرة.. شاهد هنا أشياء جعلته يستغرب، فخاطب أحد المارة: إنكم تتصرفون في هذه البلاد بطريقة فيها الكثير من السذاجة، تبتسمون ببلاهة، وتتحدثون بلا احتراز! إن القليل من الحرص واجب، فالقانون لا يحمي المغفلين، فما السر في هذه التصرفات؟ ابتسم المار وقال: السر كله في القانون! صحيح أننا مجتمع فيه نصابون، وفيه أناس يحترفون قطع الأرزاق، ولدينا مشاكلنا التي تفرضها طبيعة الحياة في المدينة كأي مدينة أخرى، نحن نشبِهكم أنتم العرب كثيراً، لكننا نختلف عنكم في أمرين، الأمر الأول: أن القانون هنا وُضع أساساً لحماية من تُطلِقون عليهم مُغفلين، بينما ننظر نحن إليهم أنهم أصحاب ضمير وأخلاق وطيبة قلب، وهؤلاء من يستحقون الحماية قانونياً قبل أي أحد آخر، لأن القانون الذي لا يحمي هؤلاء فهو ببساطة سيحمي من يستغل نقاء سريرتهم، الأمر الثاني: أن القانون هنا يُطبق على كل نصاب وفهلوي من أي فئة من فئات المجتمع دون مجاملة أو تمييز. نحن لسنا مجتمعا ملائكيا، بل وتكثر بيننا الشياطين، غير أنه لا أحد من تلك الشياطين يعتقد بأن من حقه، قانونياً، أن يكون شيطانا! وهذا هو السر في حالة الطمأنينة التي تراها على وجوه الجميع هنا، فالكل يؤمِن بسيادية القانون ولا مجال للمحاباة عند التطبيق. إن أي خلل في تطبيق القانون سيقسم المجتمع فوراً إلى ثلاث فئات، فئة مفترِسة، وفئة متلونة تجيد الفهلوة، وفئة ثالثة ساخطة على باقي الفِئات. يرى "علي عزت بيجوفيتش" أن الهدف النهائي من القانون ليس العقوبة أو المنع أو الفرض أو حتى التحسين، إنما الهدف الجوهري هو خلق توازن أخلاقي في المجتمع.. كما يرى أن القوانين إذا كثرت وتراكمت وتعطلت، فينبغي عندئذ أن تتوقف الدولة عن إصدار أي قوانين جديدة لن تزيد الأمر إلا سوءا، وأن يبدأ الحكماء والمفكرون فوراً في إعادة تربية المجتمع من جديد!