مؤشرات التضخم تحدد مزاج المستثمرين في الأسواق السعودية    «الأرصاد» في إنذار أحمر : أمطار غزيرة على جدة اليوم الجمعة    الرياضة السعودية ما بعد النفط.. الاستثمار في العقول لا العقود    ازدهار الطبيعة    شبكة عنكبوتية عملاقة    الأخضر السعودي يختتم استعداده لمواجهة ساحل العاج    اللاعب السعودي خارج الصورة    الفيفا يختار هدف عمرو ناصر في الأهلي المصري ضمن القائمة المختصرة لجائزة بوشكاش    إعلان أسماء المستحقين للأراضي البعلية الموسمية في الحدود الشمالية    غدٌ مُشرق    رحلة الحج عبر قرن    عدسة نانوية لاكتشاف الأورام    إنجاز طبي جديد بنجاح عملية فصل التوأم الملتصق الجامايكي    انطلاق "موسم شتاء درب زبيدة 2025" في محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية    الأمير خالد الفيصل يكتب التاريخ ويفوز بلقب الروّاد في البطولة العربية للجولف بالرياض    المدير الرياضي في الأهلي: غياب توني لأسباب فنية    القبض على (3) يمنيين لتهريبهم (60) كجم "قات" في عسير    وزير "البيئة" يلتقي قطاع الأعمال والمستثمرين بغرفة الشرقية    وفد سعودي يشارك في تمرين إيطالي لمحاكاة مخاطر البراكين ويبحث تعزيز التعاون في الحماية المدنية    وزير الحج والعمرة: الرعاية الكريمة لمؤتمر ومعرض الحج كان لها الأثر الكبير في نجاح أعماله وتحقيق أهدافه    اليماحي يثمن الدور الرائد لدول الخليج في تعزيز مسيرة العمل العربي المشترك والدفاع عن القضايا العربية    خوارزميات الإنسان    هطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة من يوم غدٍ الجمعة حتى الاثنين المقبل    مفتي عام المملكة يستقبل وزير العدل    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير جمهورية فرنسا لدى المملكة    خبراء: السجائر الإلكترونية تقوض حقوق الأطفال الإنسانية    توازن كيميائي يقود إلى الرفاه الإنساني    غرفة القصيم توقع تفاهمًا مع الحياة الفطرية    منسوبو وطلاب مدارس تعليم جازان يؤدّون صلاة الاستسقاء    "محافظ محايل" يؤدي صلاة الاستسقاء مع جموع المصلين    محافظ صبيا يؤدي صلاة الاستسقاء تأسياً بسنة النبي واستجابة لتوجيه خادم الحرمين الشريفين    التضخم في السعودية يبلغ 2.2% في شهر أكتوبر 2025    شراكة مجتمعية بين ابتدائية قبيبان وجمعية «زهرة» للتوعية بسرطان الثدي    انتخاب القانونية الكينية فيبي أوكوا قاضية بمحكمة العدل الدولية    أول اجتماع لمكتب المتقاعدين بقوز الجعافرة    تقني الشرقية تختتم "راتك 2025"    مصرية حامل ب9 أجنة    الثقوب الزرقاء ورأس حاطبة.. محميتان بحريّتان تجسّدان وعي المملكة البيئي وريادتها العالمية    محافظ محايل يزور مستشفى المداواة ويطّلع على مشاريع التطوير والتوسعة الجديدة    ورشة استراتيجية مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة 2026–2030    محافظ القطيف يرعى انطلاق فعالية «منتجون» للأسر المنتجة    ذاكرة الحرمين    الشلهوب: الرسائل المؤثرة.. لغة وزارة الداخلية التي تصل إلى وجدان العالم    كمبوديا وتايلاند تتبادلان الاتهامات بالتسبب بمواجهات حدودية جديدة    وفد رفيع المستوى يزور نيودلهي.. السعودية والهند تعززان الشراكة الاستثمارية    تعزز مكانة السعودية في الإبداع والابتكار.. إطلاق أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    «مغن ذكي» يتصدر مبيعات موسيقى الكانتري    160 ألف زائر للمعرض.. الربيعة: تعاقدات لمليون حاج قبل ستة أشهر من الموسم    وسط مجاعة وألغام على الطرق.. مأساة إنسانية على طريق الفارين من الفاشر    طهران تؤكد جديتها في المفاوضات النووية.. إيران بين أزمتي الجفاف والعقوبات    وسط جدل سياسي واسع.. الرئيس الإسرائيلي يرفض العفو عن نتنياهو    يجتاز اختبار القيادة النظري بعد 75 محاولة    شهدت تفاعلاً واسعاً منذ إطلاقها.. البلديات: 13 ألف مسجل في مبادرة «الراصد المعتمد»    النويحل يحتفل بزواج عمر    تجربة الأسلحة النووية مرة أخرى    تصفيات مونديال 2026.. فرنسا وإسبانيا والبرتغال لحسم التأهل.. ومهمة صعبة لإيطاليا    في أولى ودياته استعداداً لكأس العرب.. الأخضر السعودي يلتقي ساحل العاج في جدة    القيادة تعزي رئيس تركيا في ضحايا تحطم طائرة عسكرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القاضي العابد الشيخ إبراهيم الراشد الحديثي

أحب َّ الشيخ الحديثي الناس فأحبوه ، وفتح لهم قلبه وبيته فأنزلوه قلوبهم ، وبذل لهم وقته وماله ، وكان من أكثر الناس الذين رأيتهم في حياتي بذلاً للجاه وشفاعة الخير ، فكان لا تكاد تغرب عليه شمس ُ يوم ٍ لم يشفع فيه لأحد أو يتصدق على أحد
سير الصالحين بهجةٌ للنفوس وراحة للأرواح ، وباعث على الاقتداء والتأسي في ما كانوا عليه من فضائل وخصال خير . وأمة محمد صلى الله عليه وسلم كالغيث لا يُدرى أأوله خيرٌ أم آخره كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم . فهي أمة مباركة منجبة للأخيار لا ينقطع الخير فيها إلى يوم القيامة .
وبعض الفضلاء والصالحين يهيئ الله لهم من ينشر سيرتهم ويحفظ ويوثق تاريخهم فينفع الله بهما الناس في التأسي بهم ويُبقي بها ذكرَهم ، وهذا الحفظ والتوثيق من حقوق هؤلاء الأعلام الذين نفع الله بهم الأمة فقدموا وبذلوا من أعمارهم وأموالهم وعلمهم ما جعلهم أهلاً للذكر والشكر والدعاء .
ومن الفضلاء العلماء العباد الذين من ّ الله علي بلقياهم ومخالطتهم وشرف صحبتهم والإفادة من علمهم وفضلهم فضيلة القاضي العابد الشيخ إبراهيم بن راشد الحديثي رئيس محاكم منطقة عسير سابقاً غفر الله له ورحمه الذي ظهر تميزه وعلا شأنه وارتفع ذكره في كثير من أبواب الفضل والخير التي وفقه الله إليها وجبله عليها فكان من أعلام القضاء والدعوة إلى الله وتعليم كتاب الله والعناية به وبطلابه ، وجمع الله له من الفضائل ما جمع عليه بسببه القلوب فأحبه من عرفه وسمع به ، وتأثر به من خالطه وعمل معه في القضاء أو الدعوة أو غيرهما من أعمال البر والخير التي كان فيها كلها رائداً سباقاً باذلا .
وقد كان ضمن اهتماماتي العملُ على جمع ِ سيرة ِ الشيخ ِ وآثاره وبعض مواقفه وأقضيته المشهورة ، وكان من أهم المصادر التي بدأتُ الأخذ منها والاعتماد عليها ؛ سؤال طلبة علم ودعاة ومشايخ قبائل وغيرهم من أعيان المنطقة ممن عاصروا الشيخ وتأثروا به من فضلاء منطقة عسير خاصة ، وكان منهم فضيلة الداعية المعروف الدكتور سعيد بن مسفر ، الذي حين طلبت ُ منه ما لديه كان أن بادرني باقتراح تسمية الكتاب (القاضي العابد) وعلّل َ ذلك بأن الشيخ " رحمه الله " وإن اشتهر بكثير من الفضائل والمزايا إلا أن الصفة التي كانت غالبة ً على غيرها في شخصيته كانت هي (كثرة العبادة) .
لقد كان الشيخ الحديثي " رحمه الله " من أعلام القضاء السعودي الرواد السابقين في الزمان والفضل ، وكان أول عمل كُلّف به حين خرج من منطقته القصيم مدينة البكيرية إلى بوادي الحجاز عام 1346ه بأمر الملك عبدالعزيز " غفر الله له ورحمه " وذلك ضمن عدد من طلبة العلم عُهد إليهم تعليم أهالي بادية الحجاز أمور الدين وإقامة الشرائع والشعائر فيهم، وتولي أعمال الإفتاء والقضاء بينهم . وبقي الشيخ ُ على ذلك زمناً إلى أن جاءه الأمر من الملك عبدالعزيز بالانتقال إلى مدينة النماص قاضياً ثم إلى القنفذة إلى أن استقر به المقام في مدينة أبها وأصبح رئيساً لمحاكم منطقة عسير إلى أن أحيل إلى التقاعد " رحمه الله " عام 1412ه.
وكانت شخصية الشيخ مثالاً يحتذى وقدوة ً تُتبَع لمن جاء بعده (من القضاة خاصة) لما امتاز به من فضائل، وكريم خصال أستعرض هنا بعضها حسب الإمكان على سبيل التنويه فقط لا على سبيل الحصر ، وذلك لما في إبراز سير الصالحين والقدوات من رفع الهمم والتشجيع على التأسي بهم :
أولاً : كان الشيخ ُ الحديثي " رحمه الله " مُدركاً لعظمة وجلالة منصب القضاء وحريصاً على استكمال ما يتطلبه هذا المنصب ُ الشرعيّ الخطير من شرائط ولوازم هي أساس التوفيق والنجاح فيه ، والتي من أهمها الخوف من الله عز وجل وتقواه ، وكان " رحمه الله " يُصرّح بأن القاضي محتاج ٌ إلى ربه عز وجل لا غنى له عنه طرفة عين، ومحتاج إلى عون الله وتوفيقه له وإلهامه الصواب وتفهيمه ما يحتاج إلى فهمه من مُشكلات القضايا ، ويؤمن أنه لا سبيل إلى ذلك إلا بتقوى الله عز وجل والخوف منه ، فكان الشيخ رقيق القلب خاشعاً مُنيباً وقّافاً عند حدود الله ، فكان أن وضع الله له القبول فأحبه الناس ورضوا بأحكامه ، ما جعله ينجح ُ في حل ّ كثير من أعقد النزاعات القبلية المشهورة التي كان بعضها قائماً عشرات السنين وعجز َ عنها غيره من القضاة والوجهاء والمصلحين ، فوفقه الله لحلها بطريقة لقيت رضا وقبولَ أكثر الناس عناداً وأشدهم بأساً ، وهذه القضايا يعرفها جيداً العارفون من أهل منطقة عسير ورواها كثير ٌ منهم لي وما يزالون يذكرون للشيخ فضله فيها ويدعون له .
ثانياً : كان من أبرز سمات الشيخ " رحمه الله " معرفته واحترامه لما يجب لولاة الأمر من حقوق الطاعة والنصيحة والتعاون معهم على البر والتقوى ، وكان له علاقة ٌ مميزة ٌ وطيدة ٌ بجميع ولاة الأمر من الملوك السابقين " رحمهم الله " وكبار رجالات الحكم والدولة ، متواصلاً معهم بجميع الوسائل من النصيحة والدعاء والسؤال الدائم والمحبة الصادقة لهم ، وكانوا جميعاً يبادلونه الود والتوقير بمثله فيقبلون شفاعته ويتقبلون نصيحته ويعلمون صدقه ونصحه وإرادته الخير ، وكانت أوثق وأعمق ُ علاقاته التي اطلعتُ عليها وعرفها كل من حوله " رحمه الله " فيما عدا الملوك مع أميريْ الخير والوفاء سلطان بن عبدالعزيز " غفر الله له ورحمه وأعلى في الجنة مكانه " ومع سمو ولي العهد الأمير نايف " حفظه الله ووفقه لكل خير " اللذين كانا يخصان الشيخ بمزيد حفاوة وتوقير، ولا يردان له طلباً ولا شفاعة ولا نصيحة ، وكان الأمير سلطان لا يزور منطقة عسير إلا زار الشيخ في بيته .
كما كان وثيق الصلة بأمراء المنطقة لإيمانه بأنهم يُمثلون ولي الأمر وأنهم خير ُ عون ٍ للقاضي على أداء رسالته ، وعلى وجه الخصوص ارتبط الشيخ "رحمه الله" بعلاقة من أوثق العلاقات وأسماها مع الأمير خالد الفيصل " وفقه الله " طيلة عمله أميراً لمنطقة عسير ، فكان كل منهما لا ينفك عن مشاورة الآخر والاستعانة به فيما يعرض له من إشكالات ، وكان الأمير يوقر الشيخ ويعرف له قدره ويأخذ برأيه في كل شؤون المنطقة حتى في غير القضاء ، كما كان الشيخ ُ يُحب ُ الأمير ويدعو له ولا يبخل عليه بنصح ٍ أو مشورة ٍ أو رأي ، حتى إنه حين توفي الشيخ جزع عليه الأمير ُ وحزن حزناً عظيماً وصرّح في مجلس العزاء بما يربطه بالشيخ من محبة ومودة لله وأن سموه كان يعتبر ُ الشيخ أباً له، فكانت علاقتهما أنموذجاً يحتذى ، لو اتبعه كلّ قاض ٍ مع أمير منطقته أو الحاكم الإداري فيها لكان في ذلك الكثير من الخير والنفع لهما وللناس .
ثالثاً : أحب َّ الشيخ الحديثي الناس فأحبوه ، وفتح لهم قلبه وبيته فأنزلوه قلوبهم ، وبذل لهم وقته وماله ، وكان من أكثر الناس الذين رأيتهم في حياتي بذلاً للجاه وشفاعة الخير ، فكان لا تكاد تغرب عليه شمس ُ يوم ٍ لم يشفع فيه لأحد أو يتصدق على أحد ، وكان مجلسه مفتوحاً عامراً بأصناف الناس بمن فيهم الوزير والوجيه وطلبة العلم والقضاة والبسطاء وكلهم محبون له .
كان " رحمه الله " قبلة ً للزائرين في منطقة عسير ، فلا يكاد يمر بها أحد له شأن ٌ كبير ٌ أو صغير من علماء ودعاة ووزراء وأمراء وتجار حتى وفود الدولة وأعضاء اللجان الرسمية إلا وزار الشيخ وناله من كرم الشيخ ما ناله ، فكان حاتمي الكرم لا يمضي يوم ٌ إلا وله فيه ضيوف ٌ لا ضيف ٌ واحد ، وكانت هذه المكانة للشيخ سبباً لكثير من الخير والنفع والإصلاح لأنه استثمرها في جمع القلوب وبسط المعروف والتعاون مع الناس على البر والتقوى حتى تجاوزت مكانة الشيخ وسمعته الطيبة خارج حدود المملكة وقد حصل على شهادة تقديرية من سمو الشيخ زايد آل نهيان " رحمه الله " نظير كون الشيخ من رواد العمل الاجتماعي .
واستمر الشيخ ُ سائراً على طريق الحب والنفع للناس إلى أن وافاه الأجل يوم الجمعة 17/11/1424ه بعد أن تجاوز المائة عام من الطاعة والعبادة والنفع للناس .. غفر الله له ورحمه وجمعنا به في الفردوس الأعلى .
وسيرة الشيخ وآثاره موطن ٌ خصب ٌ للباحثين يجدون فيها ما يملأ الصحف ملأ الله صحائفه بالحسنات ، إلا أنني قبل الختم لايمكن أن أتجاوز الحديث عن الشيخ دون إفادة القارئ الكريم بنادرة ٍمن نوادر الزمان التي يقل تكررها ، ومن روائع قصص بر الوالدين ، تتمثل في بر فضيلة شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم الحديثي " حفظه الله " بوالده الشيخ إبراهيم، والشيخ محمد ولي القضاء مع أبيه ورأس محاكم عسير بعده إلى أن تقاعد " حفظه الله " وكان مع مشابهته لسيرة والده ومع كبر سنه - إذ هو أكبر أبناء الشيخ - ومع جلال قدره ، كان ملازماً لوالده مثل ظلّه لا تراه إلا ممسكاً بيده ، بل رأيته يُلبسه نعليه ويمسح بالمنديل فم والده وأنفه . وكان لا يفارقه إلا عند النوم ، حتى ضرب أروع أمثلة البرّ بالوالد لا حرمه الله نفع ذريته وصلاحهم وبارك له فيهم .
هذه صورٌ ممتلئة بهجة ً وإيماناً أردت ُ إتحاف القارئ بها رجاء نفعها واستجلاباً للدعاء لشيخنا " رحمه الله "..
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه..
*القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.