في ذاكرة كل واحد منا مواقف تعليمية جميلة لا تستطيع عوامل التعرية التي تمسح الجبال أن تمسحها من ذاكرتنا، وفي الذاكرة معلمون لمجرد أن تقفز صورهم في مخيلتك لا تملك إلا أن تبتسم وتدعو لهم. دعني أحدثك عن أحد هذه النماذج، معلمي في المرحلة المتوسطة، معلم التربية البدنية (إبراهيم)، هذا المعلم الذي لا أزال أتذكر طيف ألوان بدلته المتناسقة، ووقفته الرياضية في طابور الصباح، وجرس صوته القوي الذي يستحث الهمم، (واحد اثنين ثلاثة أربع.. واصل أحسن ثلاثة أربع..). لم تكن حصصه حصصا عادية، بل هي حصص استثنائية، مع عدم وجود مقرر دراسي في حينها. كان ينوِّع في الطرح الرياضي ويدرب بمهارة عالية، لم تكن كرة القدم الوحيدة في حصصه ولا المتفردة في طرحه، كما هو الحال عند البعض. أتذكر الآن وقفتنا في صف واحد ونحن ننظر إليه وكلنا آذان صاغية، وهو يردد ويقول: «اليوم سنتعلم الوثب بأنواعه، الوثب الثلاثي والطويل والعالي»، لا يزال يرن في رأسي صوته عندما يرفع صوته: «والوثب بالزانة»، شيء كان لعمرنا يعني الكثير والكثير، أقطف ثمرته في بعض دروب الحياة. كان يحرص علينا أن نتعلم قانون اللعبة أولا، ثم نطبق المهارة وفق القانون، كنا ننتظر دورنا بحماس، للتشجيع الذي نتلقاه منه، مع أن أداءنا كان أكثر من متواضع. لن أنسى ذلك اليوم الذي هطلت فيه أمطار غزيرة كانت كفيلة بحرماننا من ملعب كرة القدم، أخذنا معلمنا إلى الصف وبدأ يشرح لنا بعض القوانين الخاصة بضربات الجزاء والتحكيم، كنا نستمتع بالأسئلة التي نطرحها عليه، بعضها لم يحدث في تاريخ الكرة الرياضية وأظنها لن تحدث. قبل نهاية كل عام كان يقوم بإحضار عدد كبير من الطلاب للمدرسة في الفترة المسائية استعدادا للحفل الاستعراضي الختامي للمدرسة، أشبه ما يكون بافتتاح الأولمبياد الرياضية، كان يعلمنا كيف نصنع بأجسادنا لوحة فنية لها معانٍ عدة، علمنا أن من لا يتناغم مع الفريق يسيء للجميع، هذا الدرس كان من الدروس التي تعلمتها في تلك المرحلة، علمنا أننا فريق واحد وجسد واحد بتوحدنا وتجمعنا نصنع أشياء جميلة. كنا نتعلم بسعادة، لا تزال حركة الأعلام بأيدينا تتأرجح في مخيلتي ومعلمنا يقف على كرسيه ممسكا مكبر الصوت يوجهنا. لا أجد له في ذاكرتي صورة واحدة وهو جالس ينظر إلينا، دائما يقف حولنا يتحرك معنا، عيناه وقلبه تحيطنا بحبه، كنا نشعر بذلك. ليس هدفا عندي الحديث عن سيرة المعلم ابراهيم وإن كان يستحق ذلك، بل الهدف هو الإشارة إلى أن المعلم المتخصص المتقن لتخصصه، الذي تحركه مشاعر الحب الصادقة، والحريص على نقل المعرفة والمهارة إلى طلابه أيا كان تخصصه هو من يحدث التعلم الحقيقي عند طلابه، هذا النوع من المعلمين هو من يصنع الفرق. ختاما يحلو لي أن أؤكد على أن التربية البدنية ليست كرة قدم فقط، بل التربية البدنية علم وفن لتغذية أحد أنواع الذكاءات المعروفة ومدرسة من مدارس احترام القانون والنظام ومدرسة من مدارس الأخلاق. هذه المفاهيم وغيرها من المفاهيم الرياضية، تحتاج إلى مزيد عناية واهتمام منا جميعا... رحم الله مَن علمنا.