مرَّ رجلٌ بطالب علمٍ اشتدَّ به الفقرُ، فرآه يشكو الجوع والألم، فتصدَّقَ عليه وقال له: يا فقيه إياك أن تشكو الرحمن إلى من لا يرحم، قال الشيخُ أبو عبد الله المَقَّري: (أمرَهُ أن يسألَ عزيزاً بمولاه، ونهاهُ أن يشكو ذليلاً مَن سواه) فالطمعُ في المخلوق شجرةٌ لا تُثمرُ إلا الذُّلَّ، فمن استَنْبَتَها وغرسها في قلبه، فقد سعى في تعظيم ذُلِّه، لأنه بذلَ ماءَ وَجْهِه لمن هُمْ مِثله من المخلوقين، الذين لا يملكون حولاً ولا قوَّة، ولأنه صار أسيراً ومُسترَقّاً لِمَا طمع فيه وسعى إليه، فاستِعْبَادُ الأحرار بلاءٌ سببُهُ الأطماع الكاذبة، فهي أوهام وتخييلات تسوقُ للانقياد لِمَا لا قيمة له، وقد قيل "ما قادَكَ مثلُ الوَهْم" فالعبد حُرٌّ ما قَنِعْ، والحرُّ عبدٌ ما طَمِعْ، وهذا أدبٌ إسلاميٌّ رفيع، وهَدْيٌ نبويٌّ شريف، غرسَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أصحابه الكرام، فقد قال يوما لشابٍّ نجيب، وكأنَّه يخاطبُ فيه شباب هذا الجيل الذين كثُرَتْ أمامَهم المغريات الكاذبة، لئلا تسوقهم إلى كثيرٍ من المفاسد والمضارِّ، قال لسيِّدنا عبدالله بن العبَّاس - رضي الله عنهما -: (يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْهُ تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعنْ بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لمْ يَضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتْ الأقلام، وجفَّتْ الصُّحف) ما أعظمه من حديثٍ شريف، اشتمل على كثير من المعاني النبيلة، فالعبدُ إذا أَيِسَ مِن نَفْعِ نفسه لنفسه، فإياسُهُ من نفعِ غيره له، أهمُّ عليه وأَوْلَى، بخلاف طَمَعِهِ ورجائه في مِنَنِ الله ونِعَمه، فإنه إذا كان يرجو الله لنفعِ غيره، فرجاؤه لنفع الله له أهمُّ عليه وأَوْلَى، فما أعظم الإياس عما في أيدي الناس غِنَىً بربِّ الناس، قال الله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) فالطمعُ داءٌ عضال، غايتُه الحرمان، قال بعض الصالحين: (لو قيل للطمع مَن أبوك لقال الشكُّ في المقدور، ولو قيل له ما حِرفتُك لقال اكتساب الذُّل، فلو قيل له ما غايتُك لقال الحِرمان) انتهى وهو عجيب، فكان أشدُّ ما يتعاهَدُه الصالحون أن يُطهِّروا نفوسهم من الطمع، وأن يتفقَّدوا الورع في قلوبهم، وأعظَمُ ما يُورِثُ الورعَ هو أن يرفعوا هِمَمَهُم عالياً، وأن ييأسوا مِن نفع الخلائق، طمعاً لما عند الله، فهذا أعظم رأس مالٍ لابن آدم، فقد رُئِيَ فقيرٌ ينادي في السوق: ارحموا فقيراً ذهب رأسُ ماله، فقيل له: وهل للفقير رأس مال؟ فقال: نعم، كان لي قلبٌ فَقَدْتُه، ومن بديع ما يُحكى عن سيدِنا عليٍّ - رضي الله عنه - أنه حين قدم البصرة، كان يطوف في مساجدها، فيجدُ الوعَّاظ يُسمعون الناس ما يُرقِّق القلب، فأقام مَن لا يُحسن منهم ومنعه من الجلوس، حتى وجد شابّاً رأى عليه سَمْتاً وهَدْياً حسناً، فقال يا فَتى إني سائلُكَ عن أمرٍ، فإن أجبتَ عنه أبقيتُك، وإلا أقمتُك كما أقمتُ أصحابَك، فقال الفتى: سَلْ عمَّا شئت، فقال عليٌّ: ما ملاكُ الدِّين قال الفتى: الورع، قال عليٌّ: فما فسادُ الدِّين، قال الفتى: الطمع، قال: اجلسْ فمثلُكَ يَتكلَّمُ على الناس، فكان هذا الفتى هو الحسنُ البصريُّ رضي الله عنه، ومن بديع ما قيل في الطمع أنَّ حروفَهُ (ط م ع ) مجوَّفةٌ كلُّها، فصاحبُها بَطِنٌ، فهو دائماً لا يشبع، ومن العجيب كذلك أنَّ تجويفها منغلقٌ من جميع الجوانب، فصاحبُها مؤصَدَةٌ عليه الأبواب، فهو محرومٌ دائماً، فهلّا وَعينا أنَّ مِن عميم رحمة الله بعباده أنْ قَرَنَ الطمع بالذُّلِّ والصَّغار، لنعود إلى مولانا الكريم المنَّان اضطراراً، بعد أنْ شَغَلَتْنا النِّعم وأطغَتْنا الغفلةُ عن الأوبَة إليه طَوعاً واختيارا.