فرضت التقنية الحديثة سطوتها على مناحي الحياة، وامتدت فكرة المجموعات «الجروبات التواصلية» لتشمل المثقفين والصحافيين، ولم يعد الأمر مقتصرا على الشبان، بل تجاوزه ليشمل مثقفين وصحافيين مخضرمين، باتت «جروبات» تطبيقات الدردشة الإلكترونية تحتويهم بدلا من المقاهي التقليدية التي كانت ملاذا لهم في الماضي. وكان الرعيل الأول من الأدباء والكتاب يحجزون كراسيهم ومقاعدهم فيها. وجاء رحيل الصحافي محمد الفايدي «1948 – 2017» أحد أشهر صحافيي المحليات والذي انتقل إلى رحمة الله في 31 مارس الماضي، كحدث مؤلم محفز لبعض المثقفين لاستعادة تقليد «ارتياد المقاهي» كتجمع للصحافيين، لم يعد سائدا أو مؤثرا على نحو التجمعات الإلكترونية الراهنة. مركاز صحفي المذيع والمخرج التلفزيوني «المتقاعد» عبد الله رواس، الذي عرف بمرافقته طيلة ربع قرن للشيخ علي الطنطاوي كمخرج لبرنامجه الشهير «نور وهداية»، استعاد عبر مجموعة إلكترونية عبر تطبيق «الواتساب» أجواء قديمة تمتد لأكثر من 50 عاما، كانت المقاهي تشكل فيه تجمعا لمثقفين من كتاب وأدباء وصحافيين، ومنهم الصحافي محمد الفايدي. وقال الرواس: رحم الله الصديق الحبيب محمد مسلم الفايدي فقد امتدت الصداقة بيننا لأكثر من نصف قرن دون انقطاع، وكان التلاقي الأول بيننا أواخر الثمانينات الهجرية ب (قرطاسية) الصديق محمد باريان على الناصية المواجهة لبقالة (الخواجة يني) بشاعر قابل في جدة. ولأن (قرطاسية) محمد سالم باريان كانت ملتقى لنخبة من الصحافيين والإعلاميين في تلك الأيام فقد استطاع (الفايدي) أن يحجز له مكانا بصدارة هذه (القرطاسية) على الرغم من ضيق مساحة المكان. وكان من الذين تضمهم الجلسة يوميا العبادلة عبدالله بامحرز، عبدالله علي أحمد، عبدالله بامهير ومدير الجوازات بجدة الضابط الشاعر عبد القادر كمال، ثم امتد التلاقي بيننا مساء كل يوم بمركاز الزميل علي خالد الغامدي بقهوة «الدروبي» شرق المحكمة الشرعية الكبرى في موقعها القديم بوسط جدة. وهذا المركاز الصحفي الذي أسسه الزميل علي خالد الغامدي لم يكن لأي صحفي بجدة أو من خارجها إلا ويقتعد مقاعده الشعبية غير الوثيرة بالطبع. بين مقاهي السعودية وباريس الكاتب الصحافي الدكتور عبدالله مناع أحد أشهر رؤساء التحرير في الصحافة السعودية خلال حقبتي السبعينات والثمانينات، يعرفه الوسط الثقافي والصحافي بأنه من عشاق المقاهي الكبار، يقول: إنه يكاد يعرف مقاهي مدينته جدة مقهى مقهى، وهو لم يكن من رواد مقهى الدروبي، لأنه كان وقتها مبتعثا للدراسة في مصر. ويشير إلى أن ظاهرة التقاء الصحفيين والكتاب والأدباء في المقاهي «تقليد إنساني عريق»، عرفته المدن السعودية في الحجاز ثم بقية المناطق، وإن تميزت العواصم الأوروبية الكبيرة كباريس وروما ولندن بوجود المقاهي الأدبية، إلا أن باريس تظل هي سيدة المقاهي الثقافية، التي عرفت فيها ظهور اتجاهات أدبية ومدارس فنية، وخرجت منها مظاهرات وثورات، وآوت مثقفين وأدباء من مختلف بقاع الدنيا، حتى عرفت خاصة في القرن العشرين بداياته ومنتصفه بأنها العاصمة الثقافية للعالم، على غرار القاهرة عاصمة المثقفين العرب، وإن كانت الإسكندرية بالنسبة لي هي الأقرب للقلب بحكم وجودي فيها أثناء دراستي، وكان مقهى «كفافيس» الشاعر اليوناني الذي عاش في المدينة هو المفضل عندي. على أي حال تبقى باريس هي العاصمة التي لا تنافسها مدينة بمقاهيها الأدبية، ولعل من أشهرها بروكوب أحد أقدم المقاهي الأدبية الصرفة في باريس، والذي اقتعد كراسيه كتاب كبار من طراز أوسكار وايلد، وجان جاك وروسو، وفيكتور هوغو. ويستبعد المناع كليا أن تتنزع المقاهي الافتراضية مكانة المقاهي التقليدية لأسباب كثيرة، مشددا على أن من قد يروج لهذه الفكرة مجموعة من الشبان والمراهقين المنبهرين بالتقنية، فالمقهى باق كتقليد إنساني عريق له مباهجه وميزاته التي لن توفرها أعتى وأشد وسائل التقنية، ولعلي هنا أعبر عن سعادتي بالتزامنا نحن مجموعة من الكتاب والأدباء بالالتقاء أسبوعيا بأحد مقاهي جدة. من الشعبية لأحدث المقاهي ولأن المقهى كان شعبيا جدا، بل يكاد يكون ارتياده مقتصرا على العمال طوال النهار، كان لافتا جدا أن يرتاده مثقفون وصحافيون مساء، وهو ما يعلله الرواس بقوله: السبب في اختيار هذا المقهى الشعبي العتيق هو قربه وتوسطه من مقار الصحف بجدة آنذاك من منتصف الستينات الميلادية، حيث جريدة عكاظ بشارع الميناء، وجريدة والمدينة بطريق مكة، وجريدة البلاد ثم مجلة إقرأ بمطابع الأصفهاني وقد تنامى الإقبال عليه لاستمراره في العمل ليلا، وهو ما يتفق وظروف الصحفيين الذين يعملون لوقت متأخر من الليل فيخرجون طلبا للشيشة والاسترخاء وتعلية الأصوات في نقاشات المهنة! وكان من الملازمين لمركاز علي خالد من الصحفيين يوميا ممن أتذكر الآن «فيصل علوي، عبد القادر شريم، محمد صادق دياب، علي حسون، عمر أبو زيد، محمد الفايدي، أحمد بن سهل، حسن باخشوين، عبد العزيز الشرقي، محمد عبد الواحد، علي جابر، علي مدهش، علوي الصافي، سالم مريشيد، عبدالله باخشوين، وعكاشة طه». يمسح الرواس دمعته ويتابع مكملا: لقد كان آخر التقاء لي بالحبيب الفايدي قبل أسبوعين بمقهى (ديلفرانس) ملتقانا الأسبوعي الحافل، والذي ربما يكون امتدادا لتقليد قديم يتمثل في التقاء المثقفين بالمقاهي، ولكن في مقاه حديثة عصرية، إذ لا يمكن للتجمعات الإلكترونية أن تلغي أو تحول دون التقاء الأحبة من الكتاب والأدباء والصحافيين ولو دوريا لقاء مباشرا كملتقانا الأسبوعي هذا الذي سيفقتد محمد الفايدي الذي التقطت له صورة في آخر حضور له، وقد بدا ساهما مستغرقا في القادم المجهول ربما.