جاد الموارنة على لبنان برؤساء كانوا خيرة رجال السياسة والحكم والعقلانية. ولكن نتائج الحرب الأهلية وآثار الاحتلال السوري أصابت الحياة السياسية اللبنانية بلوثة الاستئثار، ونقلت إلى يوميّاتنا الأسلوب الأمني الذي انتهجه العسكر السوري طيلة ثلاثين سنة في لبنان. فغاب الحوار، وتراجع العيش المشترك وعلت الأنانية. ويقف اليومَ رجلٌ اسمه ميشال عون، أعطى لبنان الكثير من الزلّات والأخطاء الجسام، ويعلن نفسه مرشّحاً حصرياً للرئاسة، مستحقّاً لها دون سواه. إنه يحسبنا قد نسينا دوره كعقيد في الجيش اللبناني في السبعينات، يوم قام بنفسه بإعداد خطة محاصرة وإزالة مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين. هي الخطة التي نشأ عنها بعد ذلك إبادة آلاف الأبرياء. وقد أقر بنفسه بدوره هذا في أحد وثائقيات الحرب اللبنانية. هو يظن أن ذاكرتنا قصيرة لننسى أنه في أواخر الثمانينات أدار سلاح الجيش اللبناني إلى الداخل، واتخذه مطيّةً لتحقيق تطلعاته الرئاسية آنذاك، بدلاً من توجيهه أولاً نحو احتلال إسرائيلي كان لا يزال وقتها يحتل أجزاء من لبنان. كان سعيه وقتها العمل بنصيحة حاكم سورية لجهة وجوب إثبات شرعيته المسيحية أولاً كشرط للإتيان به رئيساً للبنان. يخطب بنا من وقت لآخر، يغضب ويزمجر، متناسياً أن الجمهورية الفرنسية، عندما قررت منحه حق اللجوء السياسي إليها، كان أول شروطها التزامه الصمت المطلق لمدة خمس سنوات. فكان لها سكوته التام عن أي تصريح سياسي منذ عام 1990 حتى عام 1995. ومنذ عام 2014 حتى تاريخ كتابة هذا المقال، لا يرى في نفسه إلا صاحب الحق الحصري لتولّي الرئاسة اللبنانية، ويعمل على هذا الأساس لجعل حالة الشلل المؤسساتي حالة عامة تطال كافة مستويات المؤسسات في الجمهورية اللبنانية. الرفض التام لميشال عون، لأنه لا يلبّي تطلعات الشعب اللبناني، فهو بالأمس القريب في عام 2005 من ربط لبنان ومؤسساته بوثيقة التفاهم التي أبرمها حزبه مع حزب الله بدل أن يكون الدستور اللبناني مرجع الجميع في ممارسة السياسة. ومن خلال هذه الوثيقة ربط لبنان بالسياسة الإيرانية وبكل أطماعها في المنطقة، وبكل مراهناتها ومغامراتها الحربية، الرفض التام لأن رئاسته تفتقد الوفاق اللبناني أساساً، والرضا العربي استطراداً، وستؤدي إلى مزيد من السيطرة الإيرانية على القرار اللبناني، منذ خمس وعشرين سنة حتى اليوم لم يكفّ ميشال عون عن تكرار خطاب فئوي بغيض يعتبر سنّة لبنان المسؤولين عن كل متاعب الوطن، ووصفه بأن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية هو أصل البلايا ويجب التخلص منه. إن الواقع ينبئ بأن النظام الطائفي في لبنان قد أفلس، وأفل نجمه، وبات عاجزاً عن اقتراح الحلول لحل أزمات لبنان ومنحه المستقبل الجدير به وبأبنائه. ولكن النظام الطائفي نفسه هذا إلى أن يحين أوان دفنه واستبداله بنظام عصري، لا يحتمل إلا العقلاء، وأهل الحكمة والوطنية الصرفة، ومن لا يرتهنون لبنان في محاور أكبر منه. إن هذه المواصفات يجب أن تنطبق على جميع قيادات الحكم في لبنان من مجلس وزراء ومجلس نواب أيضاً. يقول ميشال عون إنه خيرٌ للبنانَ الفراغُ من ألا يأتي رئيس ضعيف، ونحن نقول خيرٌ لنا وللبنان من ألا يأتي رئيس أبداً إن كان ليس لنا من خيارٍ سواه، لأن الرئيس القوي والمستحقّ هو، كما قال الكاردينال صفير "من لا يخجل حاضره من ماضيه".