كتب: طلال آل الشيخ أوردها "بطليموس"، وأشار إليها "موزيل"، وبشر بها "محمد عليه السلام" وتوجها العهد السعودي، فأتت كملحمة تنمية لم تنته بعد. في مكتب أميرها فهد بن سلطان "لوحة" حملت كثيرا من الدلالات، ومن خلال كلماته بدت لي حيثيات التحول الذي تعيشه "تبوك" لا سيما وهو يستعرض منجزات الوطن الكبير ويتجاوز منجزات منطقته. كانت "الدهشة" رفيقة زيارتي لها، بدءا من صالات مطارها الفاخر الدولية والمحلية التي تستوعب نحو 1.3 مليون مسافر، مروراً بسلة الفاكهة الأولى على مستوى الخليج التي تحتضنها أرضها، والتي تؤمن غذاءنا بنحو 100 ألف طن، وانتهاء بمؤسسات العمل الخيري التي تنتهج أسلوباً مميزاً في خدماتها، تحاكي إلى حد بعيد المثل الصيني "علمني الصيد خيرا من أن تمنحني سمكة". وإذ يؤكد الأمير أن "لرقابة الصحافة دورا مهما في تجويد العمل" كان سرد تجربة تبوك ربما يمثل خارطة طريق إيجابية تحتمها رسالة "الوطن". كانت قطرات ماء عين تبوك تنساب من بين أصابعه الشريفة، صلى الله عليه وسلم، على الأرض الجرداء تحت أقدامه، وهو يحدث معاذ بن جبل قائلا "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا" مستشرفا ما آلت إليه "تبوك" بعد نحو 1400 عام. وفيما تلفت الدوائر الخضراء التي تحيط بمدينة تبوك انتباه القادم إليها جوا، تستعيد مخيلته صورة الإعجاز النبوي الذي تحقق فيها، لتتحول خلال أقل من 4 عقود من صحراء قاحلة، إلى جنان خضراء يانعة. مصافحة فاخرة في زيارتي الأولى؛ لم تستوعب نافذة الطائرة الصغيرة، مشهد مطار تبوك، فتوقعت أن أجد أمامي صالة متواضعة كغيرها من صالات المطارات الداخلية؛ وما إن فتح باب الطائرة وأذن لنا بالخروج، حتى وجدت نفسي داخل مسرب يحاكي مسارب المطارات الدولية، وينتهي إلى صالات فاخرة قسمت لتستوعب الرحلات المحلية والدولية التي أصبح المطار محطة لها، بعد أن دشن مبناه الجديد"2011" ليحمل اسم "مطار الأمير سلطان بن عبدالعزيز" ويخدم نحو 1.3 مليون راكب سنويا، بوجهات محلية ودولية متعددة. دروب وذاكرة الدروب الفسيحة تشرع الأحلام، تفتح آفاق الخيال نحو كل بديع ومدهش؛ بينما تؤطرك تلك الدروب المزدحمة، وتخنق أفكارك. كان فكري يستعيد ما قرأته عن تبوك، وأنا أسير في شوارعها الفسيحة؛ وكيف أن العالم الإغريقي بطليموس تحدث عنها قبل نحو ألفي عام بمسمى "تباوا"، وكيف زارها وتحدث عنها الرحالة النسماوي موزل قبل نحو قرن، وما تحتفظ به أرضها من عبق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين أتاها ومكث فيها نحو 20 ليلة، وفق أغلب الروايات، فيما تنتشر في قلبها ومحافظاتها عشرات الأماكن الأثرية ذات القيمة السياحية والثقافية الكبيرة، من قلعتها التي تجاوزت 3500 عام، ومباني سكة حديد الحجاز، ومغائر شعيب، وبئر هداج، وقرية، وروافة، ونحو 30 موقعا أثريا وسياحيا لم تحظ بالاستثمارات السياحية كما يجب. جولة سريعة شعرت بأن الطريق طويل بين المطار ومركز صحيفة الوطن الذي يتوسط تبوك، إلا أنني اكتشفت لاحقا بأن مدير المركز الزميل عبدالقادر عياد، الذي كان يصطحبنا، أراد له أن يكون طويلا، حيث منحني فرصة الاطلاع على أجزاء من المدينة قبل أن يتوجه لمقر الصحيفة. بالنسبة لزائر يأتي من الرياض، وشوارعها المزدحمة، تبدو شوارع تبوك الفسيحة، بمساراتها التي تتراوح بين 3-5 مسارات، لافتة للانتباه، وكأنما أعدت لتتناسب مع المستقبل الذي ينتظرها؛ فبحسب المعلومات التي نقلها لي بعض إعلاميي المنطقة، فإن منطقة تبوك تحتل مرتبة متقدمة في النمو السكاني، ويتجاوز سكانها ال900 ألف نسمة، فيما يذكر تقرير للهيئة العامة للسياحة والآثار بأنه من المتوقع أن يصل تعدادها إلى نحو 1.6 مليون نسمة عام 2028. "رتوش" دون الكمال رغم أن تبوك كغيرها من مدن المملكة، تعاني من بعض السلبيات الخدماتية، وتضم بعض الأحياء العشوائية، خصوصا في جنوبالمدينة، والتي رغم صغر مساحتها مقارنة بعشوائيات بعض المدن الأخرى، إلا أنها ما زالت تشوه المشهد العام لتبوك، وتحول دون اكتمال منظومة التنمية فيها. كما أن بعض الأحياء الجديدة ما زالت تنتظر اكتمال خدماتها، إضافة إلى أن الطريق ما بين تبوك وحقل، والذي يجري العمل فيه، ما زال دون المأمول. ورغم ذلك كله؛ إلا أن إعلامييها الذين التقيتهم، أكدوا بأن خدمات البنية التحتية، من مياه وصرف صحي وسفلتة وغيرها، تكاد تغطي معظم تبوك، باستثناء أجزاء من الأحياء الجديدة التي يجري العمل حاليا عليها، مؤكدين أن تلك الخدمات وصلت حتى تلك الأحياء العشوائية. صباحات واعدة يبدو مثيرا للاستغراب أن تفتقر تبوك، المحلقة في سماء التنمية، لوجود فندق بنجوم خمس، خصوصا وهي تستقبل سنويا آلاف السياح جلهم من الغربيين، فيما يمر بها سنويا حجاج نحو 45 دولة أوروبية وآسيوية وأفريقية، إلا أنني علمت بأن هناك فنادق حديثة يتم إنشاؤها حاليا. غادرت غرفتي، في اليوم التالي، متوجها إلى جامعة الأمير فهد بن سلطان، التي لا تبتعد كثيرا عن جامعة تبوك، اللتين تشكلان صرحين يواكبان النهضة العلمية التي تعيشها المنطقة. ورغم أنها جامعة فتية لم يتجاوز عمرها ال10 أعوام، إلا أنها كانت مكتملة الأركان بكلياتها وهيئتها العلمية ومستوى التجهيزات الأكاديمية التي تحتويها، حيث أوضح لي نائب رئيس الجامعة لشؤون التطوير عبدالله البلوي بأنها تتمتع بدعم فني من قبل الجامعة الأميركية في بيروت التي تقدم خدمات استشارية تتعلق بتصميم البرامج الأكاديمية وانتقاء الجهاز التعليمي وتطوير الأنظمة الداخلية، مشيرا إلى أنها أتاحت الفرصة للتعليم الجامعي لكثير من أبناء المنطقة الذين كانوا يتكبدون عناء السفر إلى الدول المجاورة لاستكمال دراساتهم العليا. أدهشتني الحلول التي اتخذتها الجامعة للاستفادة من طاقمها الأكاديمي ومن تجهيزاتها، حيث عمدت إلى تقسيم القاعة الواحدة بين الشباب والفتيات بشكل عملي، حيث يستطيع عضو هيئة التدريس إلقاء المحاضرة للجميع في نفس الوقت وبشكل مباشر ودون استخدام للدوائر التلفزيونية. في المقابل، استغربتُ ما نقله لي رئيس الجامعة الدكتور أحمد الناصري، من أن وزارة التعليم العالي تتعامل مع الجامعات بمسطرة واحدة، دون اعتبار لمواقع تلك الجامعات سواء في مناطق رئيسية أو في مناطق أصغر، بما في ذلك الاشتراطات والدعم. سلة فاكهة العالم نحو 40 كلم، والمشاريع الزراعية تحيط بنا ونحن في طريقنا إلى شركة تبوك للتنمية الزراعية، في مشهد يبعث الفرح بما وصلت إليه مملكتنا من نهضة زراعية تؤمن غذاءنا، حيث تشكل تبوك الأنموذج لذلك، وهي تحتضن إحدى أكبر شركات العالم في الإنتاج الزراعي، حيث تجاوز إنتاجها من الفواكه والخضار نحو 100 ألف طن سنويا. كان الأسلوب العلمي حاضرا في كل تفاصيل العمل، كما شرح لنا نائب رئيس الشركة محمد الزهراني، لضمان جودة الإنتاج وغزارته، وحفظ الثروة المائية، حيث أكد لنا بأنهم يتابعون كل جديد في عالم الزراعة، ويستقدمون متخصصين من الدول المتقدمة في هذا المجال للاستفادة من خبراتهم واستشاراتهم، مشيرا إلى أنهم أدخلوا نظام "الميكنة" الذي يهدف لجودة الإنتاج، ويسهل عمليات الحصاد، لاستيعاب الأسواق المحلية والإقليمية والدولية التي تمدها الشركة بأصناف عديدة من المنتجات الزراعية. الصيد.. لا "السمكة" لست متأكدا إن كنت أمام تجربة فريدة من نوعها، أو أنها تكررت في أماكن أخرى، إلا أنها شكلت بالنسبة لي قناعة بأنها الأسلوب الأمثل في العمل الخيري، الذي يمثل القول الصيني "علمني الصيد خيرا من أن تمنحني سمكة". فجمعية برنامج الأمير فهد بن سلطان الخيرية، التي اطلعت على معلومات عنها، تنتهج أسلوب الحل الدائم في خدمتها الخيرية للأسر المحتاجة، حيث تعمد إلى علاج الحالة بما يضمن اكتفاءها ذاتيا من خلال تأمين مورد دخل دائم، أو علاج للمشكلة التي تسبب الحاجة من الأساس. ويشمل ذلك دعم الأسرة المحتاجة بمشروع تجاري يدر عليها دخلا ثابتا، أو المساهمة في توفير عمل لأحد أفرادها، أو ترميم المنزل وتأثيثه بشكل كامل، وغيرها من الحلول التي تعالج قضية الحاجة بشكل دائم. وبالطبع، يأتي ذلك إلى جانب الأعمال الكثيرة التي تقوم بها تجاه أهالي المنطقة، من حفر آبار وبناء مساجد، وتوفير وحدات سكنية، وصلت في آخر مشاريعها إلى نحو 1000 وحدة سكنية موزعة على محافظات وقرى ومراكز المنطقة. غاب "الحوار".. وحضرت "النتيجة" كانت زيارتي لتدشين مركز "الوطن" الإقليمي بتبوك ليواكب النهضة التنموية التي تشهدها المنطقة، وبما يعزز توجه الصحيفة نحو زيادة الانتشار الذي تدعمه طبعات المناطق التي تنطلق بعد أيام. وكان لقاء أمير منطقة تبوك الأمير فهد بن سلطان تتويجا للمناسبة، والذي أشار من خلاله إلى أهمية دور الصحافة والإعلام في الحراك التنموي، مؤكدا بأن رقابة الصحافة لها دور مهم بتجويد العمل. تحدث أمير تبوك خلال اللقاء بتلقائية عن الإعلام، سلبياته وإيجابياته، فيما اعتذر بلطف عن أسلوب "السؤال والجواب" الذي يفرضه الحوار الصحفي، ليترك ل"تبوك" الإجابة نيابة عنه، قائلا "شاهد المدينة بكل ما فيها ودعها تتحدث لك نيابة عني وأنا على ثقة بأنكم ستنقلون ما تشاهدونه بمهنية ومصداقية "الوطن". وبعد لقاء سموه، غادرته ومشهد اللوحة المعلقة في مكتبه، والتي تحمل الحديث الشريف عن جنان تبوك، يعيد صياغة الزمان والمكان، ويربط الماضي بالحاضر.