وبينما كانت الأرض تستقبل حبات المطر بلهفة وشغف، تروي ظمأ جوفها، وتملأ ثقوب بيوت النمل بالوحل كان هناك إبليس جالسًا متكأ على جذع نخلة ركنتها الأيام والسنون متهالكة بين كثبان الرمل وحشائش الأرض.. كل شيء كان كما أرادت الطبيعة، وهذا ليس اعترافًا بالإلحاد ونكرانًا للخالق، بل هو إذعان بأن الله جعل الأسباب لمسبباتها. خرج ثعلب من وكره لعله يجد طيرًا أو أي فريسة أنهكتها زخات المطر القوية؛ لتكون سهلة الاصطياد بين مخالبه وفكيه.. الثعلب قد ابتل كثيرًا ولم يجد ضحيته بعدما أخذه التعب وبرودة الأرض والهواء العاصف، اختبأ وراء شجرة واحتمى بجذعها يتأمل ما حوله.. رأى رجلا قد احتطب بعض الأغصان الميتة المتدلية، ولأن المطر أدركه أخذه التعب والشقاء في جمع تلك الأعواد والأغصان المبللة بالماء، وعندما جلس ذلك الرجل ليستريح ويحتمي بين الأشجار عن المطر غفل قليلا، فتسلل إبليس وسرق الفأس التي كانت إلى جنبه دون أن يشعر، واختفى إبليس بين الأشجار بعد أن رمى الفأس بعيدًا عن الرجل.. كان الثعلب يراقب المنظر، ولكن لا طاقة له على التحدث مع الرجل، فاكتفى بمراقبة ما سيحدث.. انتبه الرجل المسكين بأنه أضاع الفأس، وراح يبحث من حوله وكأنه فقد أعز ممتلكاته، وللأسف لم يجده، بدأت ثورة خلايا جسده تتفجر وملامح وجهه وحركات جسده ترسم معالم الانفعال، وكلما مرت دقيقة لم يجد بها الفأس زاد انفعاله أكثر فأكثر، ومن شدة إفراطه وعدم سيطرته على نفسه بدأ يصارع نفسه في الأرض، وكأنه يمر في حالة عصبية قصوى، وكانت بركة ماء تحته، فبدا وكأنه يصارع إنسانًا آخر متعلقًا بأطرافه، ولكن لا يٌرى، بقي الرجل يصارع نفسه في بركة الماء لدقائق طويلة، حتى ابتلت وجهه ولحيته وجسده بالطين والوحل والماء. بدأ يرتجف من شدة البرد، وترك الأغصان المحتطبة المبللة وراح ماشيًا نحو القرية، وهو محمل بالحزن والانفعال والأطيان، وبمجرد أن تحرك خطوات رأى الفأس في طريقه فندم ندمًا شديدًا على ما فعله بنفسه، وجلس يبكي بكاء عاليًا، ويصرخ وكأنه يندب حضه العاثر، ثم أخذ الفأس وانصرف.. وهنا خرج الثعلب من مكانه وراح يبحث عن إبليس اللعين ليوبخه ويعاتبه على ما فعل بالرجل.. وبمكان آخر وجد ثعلبًا آخر يصارع نفسه في بركة ماء تحت الشجرة، فصرخ به توقف.. ماذا أخذ منك إبليس لتصارع نفسك في الوحل هكذا..؟!، قال لم أر إبليس ولم يأخذ إبليس شيئًا، ولكني فقدت فريسة اصطدتها ووضعتها هنا.. غفلت عنها لحظات فلم أجدها، فقال: وهل إذا صارعت نفسك ستجدها؟!، قال لا.. ولكن هي فرط عصبيتي وانفعالي، ولعلي بتلك الحركات الانفعالية أتذكر المكان الذي وضعت الفريسة، فقال له: إنك لم تضيعها بل أخذها إبليس اهدأ وابحث عنها بهدوء وستجدها بالقرب من مكانك هذا، ولا داعي لهذا الانفعال والعصبية غير المبررة، فنطق إبليس من خلف الثعلبين، وكان يسترق السمع في حديثهما، وقال: أما الثعلب فلم أكن المذنب بل سرق طعامه حيوان آخر.. وإلى هنا نستطيع أن نختزل قصتنا الخيالية هذه بقول النبي الأكرم (ص): «الحليم من يملك نفسه عند الغضب»، وإن مصارعة النفس بالانفعالات غير المبررة، وبحجة العصبية ما هي إلا صور كان الشيطان من ورائها، وما بعد ذلك أن لا تحكم على الأشياء بما تراه من معطيات تجدها قريبة لواقع ما يحدث، ولا تتهم المتشابه حتى تراه، فلكل حادثة حديث، ولكل مقادير أسبابها، ولا تقاس الأمور بما قبلها.. والسلام.