لماذا لم يعد شيء يثيرنا؟.. لماذا أصبحت عيوننا تلمع أقل، وقلوبنا تتحرك أبطأ؟.. لماذا أصبحنا نمر على الظواهر العظيمة للحياة كما لو كانت مشاهد عابرة في فيلم طويل فقد صوته؟!. العالم ما زال كبيرًا، هائلا، مفتوحًا على آلاف الأسرار، لكننا نعيشه من خلال شاشات صغيرة نضغط عليها أكثر مما نلمس الحياة نفسها، صار كل شيء قريبًا جدًا، متاحًا بلا جهد، حتى فقدت الأشياء قيمتها، كثرة الصور قتلت الصورة، وكثرة الأخبار أطفأت وهج الخبر، وكثرة القصص أبطلت سحر القصة، وهكذا، كلما ظننا أننا نقترب من العالم، اكتشفنا أننا نبتعد عنه أكثر. نستيقظ كل يوم على فيضان حسي لا نهاية له.. وجوه لا نعرفها، ضحكات لا نسمع صدقها، وعجائب مصنوعة بمؤثرات بصرية، زج بنا في سباق ضد الملل، فصنعنا زحامًا من الضجيج حجب عنا نعمة البساطة، كل شيء كثير، وسريع، وجاهز، وهذه الجاهزية هي القاتل الخفي؛ فقد استُهلكت اللحظة قبل أن نعيشها، مفسرة، مصنفة، مكررة، ففقدنا متعة الاكتشاف، ولوعة الانتظار، وفرحة السؤال. صار الزمن يجرنا جرًا، ولم نعد نسير فيه بخطوات تلتقط التفاصيل.. ومع هذا التراكم، بهتت حتى تفاصيل حياتنا اليومية، تلك التي كانت تفرحنا ولم تعد تحرك فينا شيئًا، باتت تمر كخلفية باهتة.. طفل يركض نحوك ضاحكًا، غروب يلون النوافذ، وبخار القهوة يرسم في الهواء أحلامًا صغيرة، أمور بسيطة كانت تبعث الإعجاب، أما اليوم فنمر بجانبها وكأن لدينا نسخة رقمية منها أكثر إبهارًا. نقف أمام البحر نلتقط صورة ونمضي، دون أن نشعر بالرهبة القديمة التي كانت تجعلنا نصمت.. نصعد قمة جبل، ونرى المدن الصغيرة تتناثر تحتنا كحبات الخرز، لكننا ننشغل بتعديل الفلتر أكثر من تأمل التفاصيل.. نشاهد خسوف القمر أو شهابًا يشق الليل، فنكتفي بقول: جميل، بينما كانت هذه الظواهر قديمًا تسرق النوم من أعين الناس دهشة وخوفًا وتعجبًا.. فهل تلاشت الدهشة؟!. بالتأكيد لا.. لكنها تغيب حين نتوقف عن المشاركة، حين نتحول من فاعلين إلى مشاهدين سلبيين، إنها تموت في رتابة التلقي، وتُحيا في جرأة السؤال والتأمل، ربما نحن لسنا بحاجة إلى أماكن وتجارب أكثر إثارة كي نندهش، بل إلى عينين جديدتين، إلى قلب يرفض أن يكون أرشيفًا للمشاهدات، ويريد أن يكون وطنًا للمشاعر، لكن هذه النظرة لا تأتي فجأة، بل حين نعترف أننا فقدنا شيئًا ثمينًا، اللقاء الأول مع الأشياء. ستعود الدهشة حين نقر أننا صرنا نرى العالم من خلال شاشة التفسير المسبق، ولم نعد نسمع نبض الأشياء، لأننا غرقنا في ضجيج تأويلاتنا عنها، الدهشة تنتظرنا عند حافة الصمت، حين نختار ألا نلتقط الصور، بل نلتقط أنفاسنا.. حين نقرر ألا نشارك اللحظة، بل نعيشها حتى الثمالة. هذا هو التحدي، أن نقاوم إغراء التوثيق المستمر، لنكتشف النادر المختبئ في العادي، في غروب مألوف، أو في فنجان قهوة، أو في تفاصيل وجه نحبه، فالدهشة، في جوهرها، ليست في الشيء نفسه، بل في المسافة التي نقطعها لرؤيته من جديد، في تلك الفراغات بين ما اعتدنا عليه، وما نتعلم أن نراه اليوم. هناك فقط تستعيد الدهشة بريقها، في اللحظة التي نجرؤ فيها على أن نكون حاضرين بالوعي الكامل، بلا فلتر يعدل الواقع، ولا تعليق يفسره، ولا موسيقى تتخفى في الخلفية، تستبق الإحساس وتلقنه.