في البدء كانت القنبلة، واليوم صارت الخوارزمية. من يقرأ الصحف اليوم يخال أن الذكاء الاصطناعي هو فرانكشتاين سيليكوني، يُحاك في مختبرات كاليفورنيا كما حاكته ماري شيلي في أقبية لندن، لكن هذه المرة بوجه أكثر براءة وشاشة أكثر لمعانًا. المثير للسخرية أن أول من يخافونه هم آباؤه الشرعيون. سام ألتمان – مهندس هذه «المعجزة» ومسوّقها في ورق براق – وقف أمام الكونجرس الأمريكي كطالبٍ نادم على فعلته ليقول: «أخشى أن ندمّر العالم بأيدينا». ثم طلب، بملهاة لا تحدث إلا في الديمقراطيات العجوزة، أن ينظّم المشرّعون ما صنعته يداه. ولم يكن وحده. حتى «المؤسسون» الأوائل من قوقل الذين باعونا ذات يوم حلمًا عن ملائكة رقمية تخدم البشرية، غادروا فردًا تلو الآخر ليحذرونا من نهاية العالم القادمة. أحدهم أعلن بلا خجل: «إذا ظننتم أن بوتين لن يبني روبوتًا قاتلًا حين تتاح له الفرصة، فأنتم تعيشون في قصص الأطفال.» إننا هنا لا نسمع صوته فقط، بل صدى الحرب الباردة يعود من شاشة تلفاز قديم بالأبيض والأسود. ألتمان، كعادته في تشبيه كل شيء بكل شيء، شبّه الذكاء الاصطناعي بالقنبلة النووية. فاقترح إنشاء «وكالة دولية للذكاء الاصطناعي»، على غرار الوكالة التي أنشئت لإدارة الذرّة «قبل أن يفوت الأوان». لكن أي زمن هذا الذي لم يفت أوانه بعد؟ لقد قيل الشيء ذاته في الخمسينيات حين اعتلى أيزنهاور منصة الأممالمتحدة ليبيع لنا حلم «الذرات من أجل السلام»، بينما كانت الصواريخ النووية تنتظر إشارة ليعود العالم إلى حجارة ما قبل التاريخ. وهكذا، كما يحدث دائمًا، يعدنا العلم بالجنة بينما تهمس السياسة في آذاننا بأن الجحيم أقرب مما نتصور. السينما لم تخذلنا يومًا في استباق الرعب. منذ «الساعة الأخيرة» و«الهاتف الأحمر» وحتى «تشيرنوبل»، كانت الشاشة البيضاء بمثابة معبد يعكس ذعرنا الجماعي. نحن نضحك ونبكي ونتأمل، لكننا نعرف أن القلق الحقيقي يبدأ لحظة انطفاء الأنوار وعودتنا إلى واقع لا يقل سوداوية عن الخيال. واليوم، ونحن على أعتاب زمن الخوارزميات، تستعد نتفليكس لحياكة «ملحمة الخوف من الآلة». ربما سيكون البطل روبوتًا، وربما سيكون الإنسان مجرد كومبارس زائد عن الحاجة. الفرق بين الأمس واليوم أن السلاح النووي احتاج إلى منصات إطلاق وصواريخ عابرة للقارات، أما الذكاء الاصطناعي فيكفيه اتصال بالإنترنت. أوبنهايمر، أبو القنبلة، قال ذات يوم: «حين ترى شيئًا جميلاً تقنيًا، تفكر فورًا في كيفية استخدامه.» لو عاش اليوم لرأى كيف أصبح الجمال التقني نفسه هو الخطر: خوارزمية جميلة بما يكفي لتكذب أفضل منا، ولتُقنعنا أننا نحن الكذّابون، تماما مثلما تفعل الخائنة حينما يضيق التعبير بالتبرير. لكن لنكن صريحين: البحث لن يتوقف. الأموال تتدفق، المختبرات لا تنام، و«الأخلاقيات» – كما هي العادة – تأتي دومًا متأخرة. ما يدفعنا إلى التعاون الدولي ليس حب الإنسانية كما تتغنى المؤتمرات، بل الخوف المشترك من فنائها. وهذه هي السخرية السوداء الكبرى: إننا لا نلتقي إلا تحت سقف الكوارث، وكأن الخوف هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع بلا ترجمة. الخلاصة؟ إذا علمنا الماضي النووي درسًا، فهو أن المستقبل سيظل رهينة مزاج رمادي، لا أبيض ولا أسود. وربما، وهذا عزاؤنا الوحيد، سنكسب على الأقل دراما عظيمة: أفلام ومسلسلات تليق بالهلع الجديد. فإذا كان الرعب النووي قد منحنا «تشيرنوبل»، فربما يمنحنا الذكاء الاصطناعي «ملحمة الخداع العظيم». على الأقل، ستبقى لنا شاشة ندفن عليها رعبنا ونحن ننتظر النهاية، بانتظار أن تقرر الخوارزمية ما إذا كنا نستحق المشاهدة في الموسم القادم.