ما أعجب أمر هذا «النظام الحضوري» الذي نزل علينا نزول المطر في صيف قائظ! لقد قلب موازين المدرسة رأسًا على عقب، وأحدث انقلابًا لم يجرؤ عليه أيّ تعميم سابق ولا لاحق. ها هي المعلمات - وفق ما يشبه «المعجزة المدرسية» - يأتين مبكرات، على غير ما ألفناه من مشاهد الوصول المتمهّل. ترى إحداهن قد اتخذت من أقرب زاوية موقفًا لتسجّل حضورها قبل أن تخطفها زحمة الزميلات، وأخرى تسلّلت إلى المدرسة في ساعات الصباح الأولى، لا بحثًا عن السكينة ولا عن إنجاز مهني مبكّر، بل لتجد مكانًا يليق بانتظارها لجهاز الحضور كي تُلقي عليه تحية رسمية، ثم يُسجّل اسمها في نظامٍ لا يُسامح! أما الممرات والساحات فقد تحولت إلى سوق عكاظ عصري: صخبٌ، ضحكٌ، جدلٌ، وهوشة لا تنقطع، كأنهن في جلسة محاكمة للنظام الجديد. لكنّ ذروة الحكاية والمشهد المضحك المبكي يتجلى ساعة الانصراف! كان الخروج - فيما مضى - أشبه بهجرة جماعية منظمة قبل الموعد بخمس أو عشر دقائق على الأقل، لا يثنيهن عن ذلك حائل ولا رقيب. أما اليوم، فقد غدا المشهد مهيبًا: المعلمات صامتات عند الأبواب، كأن على رؤوسهن الطير، يحدّقن في عقارب الساعة وكأنها حكم قضائي ينتظر التنفيذ، لا يتقدمن ولا يتأخرن لحظة، حتى يُفرج عنهن «نظام الحسم»، ويُطلق سراحهن. وللمفارقة المدهشة، استطاع هذا النظام - من غير موعظة رقيقة ولا خطابٍ أخلاقي - أن يغرس في النفوس أدب الالتزام، فالتقويم الذي عجزت عن بثّه القوانين والتعاميم، غرسه هذا الجهاز الحديدي بصوت التحذير ولسان الحسم. وهكذا صار الانضباط وليد الخوف على الراتب، لا ثمرة الوعي بالمسؤولية! فلله درّك أيها «النظام الحضوري»، جعلتِ من معلمةٍ كانت تبارح المكان قبل الجرس بربع ساعة مثالًا يُحتذى في الوقوف بوقارٍ حتى آخر ثانية، فأيّ سخرية أجمل من أن يُقال إن آلةً صمّاء قد نجحت فيما عجزت عنه دروس التربية؟ بل لعلها - على جمودها - أكثر حكمة من البشر! ولكم أن تقولوا: سبحان من سخّر هذا الجهاز الحديدي ليكون معلّمًا من نوع آخر، يزرع في النفوس «أدب الوقت»، لا بالكلمة الرقيقة ولا بالموعظة الحسنة، بل بصوت التحذير ولسان العقوبة. إنه درس عمليّ في أن بعض القوانين لا تحتاج إلى فلسفة، يكفي أن تلوّح بورقة الراتب لتصبح الطاعة طبعًا والسلوك عادة. فيا أيها «النظام الحضوري»، لكَ أن تفخر: لقد جعلت من المعلمة، التي كانت تقفز قبل الجرس بربع ساعة، أيقونةً للانضباط، واقفةً بكل وقار حتى آخر ثانية.. فهل يُقال بعد اليوم إن الآلة بلا روح؟ بل لعلها أكثر «تربية» من البشر!