كنت أسير في أحد الأسواق شارد الذهن نازح الفكر، فإذا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر فأقبلت أدفع الناس، بكتفي، وأشق طريقي بيديّ كلتيهما وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من النثر الفني.. الذي جادت به قرائحهم، فتدفق عليّ من ألسنتهم، حتى بلغت المشهد ونظرت.. نظرت فرأيت اثنان يختصمان ويعتركان، أما أحدهما فكان مسكينا قميئا أعزل عاجزا، وأما الآخر فكان ضخما، طُويلاً كالح الوجه، مفتول العضل، وسخ الثوب، قد حمل سكينا في يده طويلة النصل، حديدية الشفرة، وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون، ولا ينكرون، وصاحبه المسكين يصرخ ويلتفت تلفت المذعور، يطلب الغوث، ولا يغيثه أحد، ويبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب. وإني لأفكر ماذا أصنع؟ وإذا بذلك الرجل الكالح، العاتي يذبحه، والله أمامنا ذبحا. ويتركه يتخبط في دمه، ويوليه ظهره، ويمضي إلى دكانه متمهلا، فيعالج فيها شأنه على عادته، كأنه لم يرتكب جرما ولم يأت الأمر النكر جهارا! وكدت أهجم عليه، وأسلمه إلى الشرطه، ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهور وحماقة، وأن المجرم بيده السكين لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده بشر، وطمعت أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه وأشد أزره، فلا والله ماتحرك أحد منهم، ولاتجرأ على ذلك، بل لقد تكلم واحد منهم، فلما رفع القاتل رأسه، ونظر إليه رأيته يجزع منه ويفزع، ويقول له بصوت مضطرب متلجلج "الله يسلم يديك".. وحرت ماذا أعمل: أأبلغ الشرطة، أو أدعهم وأمضي إلى داري لاعليّ، ولا لي؟ ثم رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت، وأبعث به ليذاع ويعرفه الناس. وها أنا أتهم هذا الرجل بالقتل، وأدعو الحكومة إلى القبض عليه، حتى يعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر. ولا يحسبن أحد أنه فر، أو أن القصة متخيلة أو مكذوبة، أو أنها من أساطير الأولين، أو أنها من أخبار العصور الخوالي، فالقاتل موجود في دكانه، يغدو إليها ويروح إلى بيته، والقصة، صحيحة، رأيتها بعيني رأسي، وانا سالم العقل، غير مجنون ولا معتوه، متيقظ، غير نائم ولا حالم، صاح غير مخدر، ولا سكران، ثم إني رأيتها الليلة البارحة! هذه هي الحادثة الفظيعة التي كتب الله أن تكون هي موضوع قصتي التي فكرت فيها، وأطلت التفكير، فكيف رآها الناس، فلم يحفلوا بها، ولم يأبهوا لها.. أفسدت الأخلاق وضاعت المروءات حتى لاننكر الأمر المنكر، أم خارت العزائم، وانخلعت القلوب حتى لانجرؤ على المجرم الظالم؟ لقد سكت الجميع حتى أن أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه، وقعدوا عن الثأر له، ولم يتقدم أحد منهم، شاكيا ولا مدعيا، لأن القاتل كما قالوا، عازم على ذبحهم كلهم، إن قدر عليهم، وماضية حافل بمثل هذه الجرائم. فما سر هذا السكوت؟ لقد علمت السر بعدُ ياسادة.. ذلك أن المسكين الشهيد كان خروفا من خرفان الضحية، وأن القاتل، كان جزار الحارة، وأن الناس قد شاركوه في جرمه، فأكلوا لحم الذبيح، مشويا ومقليا، ومطهيا، وأكلت معهم، ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد. هذه هي سنة الحياة، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة. فكلوا منه أنتم أيضا هنيئا مرئيا واشتغلوا بالأكل. وكل عام وأنتم يخير.. تلك كانت قصة جميلة للكاتب العبقري الشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله... قرأتها وكنت في غاية الفضول والدهشة، ولما وصلت للنهاية صدمت لما عرفت أن الضحية خروف، وضحكت بعدها.. وبهرت بك يا علي الطنطاوي.. أعجبتني القصة وآثرت نقلها لكم عبر جريدة الرياض....الرائدة ... وكل عام أنتم بخير وأمان واطمئنان..في كل مكان، وجريدة الرياض ومنسوبيها الأكارم كذلك. آخر الألحان وافاك بالإقبال عيد مسرة ياابن الأكارم وهو عيد أكبر لازلت بالعيش الرغيد منعما ولك الهناء بمثله يتكرر.