الكرم، هذه القيمة الإنسانية الأصيلة، لم يكن يومًا مجرد طعام يملأ صحون الموائد، ولا صورًا تُنشر في وسائل التواصل الاجتماعي لتباهي الآخرين. الكرم عند العرب موروث أخلاقي متجذر، وعلامة على نقاء النفس وصفاء السريرة. كان آباؤنا إذا أقبل الضيف يكرمونه من ميسورهم ما يُشبع حاجته ويُبين قدره، دون مبالغة أو تفاخر، وحتى لو كانت المواشي لديهم بالمئات، فإن الذبيحة تكفي الحاجة فقط، والهدف هو الوفاء بالواجب تجاه الضيف وإكرامه بما يستحق، لا الاستعراض والمدح. لم يكن «المفطح» موجودًا أو رمزًا للكرم كما هو اليوم، بل كانت الذبيحة توضع في طبق كبير، ويُقسم على الحاضرين، ويُضاف إليها الخبز أو «العصيدة» أو المرق، وكل حسب عادته وأكلاته الشعبية. وكان بعض الحاضرين يأخذ نصيبه ويخبئه في ثوبه أو بين محزمه وسلاحه ليعود به إلى عائلته، فكان الكرم يمتد أثره ليشمل الأسرة والبيت كله. ومع دخول الأرز إلى المنطقة تغيّرت بعض مظاهر المائدة، لكن الروح بقيت ثابتة. فالذبيحة من الغنم تُقسم على أربعة أو خمسة صحون، يجلس حول كل صحن أكثر من ثمانية أشخاص، أي أن الذبيحة تكفي أكثر من ثلاثين شخصًا. وفي المناسبات الكبرى كالزواج، تُذبح الأبقار أو الإبل، فتغدو الذبيحة الواحدة قوتًا لمئات من الناس، دون إسراف أو تفاخر. وقد جاء الإسلام ليزيد هذه الخصلة رفعة، فجعلها من مكارم الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها، فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه». فالكرم إذًا عبادة وخلق راسخ لا يحتاج إلى إعلان. أما اليوم، فقد غلب على بعض المظاهر طابع الإسراف. صحون هائلة تحمل أكثر من جمل وعددًا كبيرًا من الخراف، لا يجلس حولها إلا عدد قليل، بينما الكمية نفسها تكفي آلافًا لو وزعت على صحون لغرض الإطعام لا التصوير والمدح. وقد رأينا عبر وسائل التواصل أطباقًا تحمل خمسة من الإبل وما بينها من الخراف بالعشرات، في محاولة للظهور الإعلامي. هذا ليس كرماً، بل تبذيرًا وسفهًا، والله يقول: «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين»، ويقول عزّ من قائل: «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا»، وهنا تنظيم رباني دقيق لعادات واحتياجات الطعام. ومن العادات المستحدثة ما يثير الاستغراب: تصوير الموائد والضيوف، وصبّ السمن على الأيدي أمام الكاميرات، واستقدام مشاهير وسائل التواصل لتوثيق المناسبات. كل ذلك لا يزيد الكرم، بل يكشف شعورًا بالنقص لا يشبعه المال، بل يُستعرَض بالأطباق الفارهة. ولنا في الأسرة المالكة قدوة حسنة: فهم أهل نسب وملك وثروة، ومع ذلك لم يُعرف عن أحد منهم تصوير مائدته أو استعراض ضيوفه. بل كثير منهم ينفقون في وجوه الخير، ويقيمون موائد الإفطار، ويُعطون الصدقات بعيدًا عن الأضواء، طلبًا للأجر وطمأنينة القلب. الكرم الحقيقي ليس في كثرة ما يُقدَّم، بل في صدق النية ونقاء السريرة. هو أن تُعطي بلا منّ، وتكرم بلا مباهاة، وتحفظ النعمة بالشكر لا بالإسراف. كما قال شاعر العرب: إذا كنت في نعمةٍ فارعها * فإن المعاصي تزيل النِّعَم وداوم عليها بشكر الإله * فشكر الإله يُزيل النِّقَم هذا هو الكرم الأصيل، روح المروءة والرحمة، الذي يعرفه العرب منذ القدم، وليس ما نشاهده اليوم من استعراض الكاميرات والصحون المترفة.