في زمن يغلي بالأسئلة وتفور فيه الشكوك كما القدور المهجورة على نار العزلة، تزدهر الخرافة وتتسيد المؤامرة مشهد العقل. وبينما يوهمنا العصر بأنه عصر المعرفة، لا تزال بعض العقول تتسكع في الأزقة المظلمة لليقين الزائف، تبحث عن حقيقة بديلة أكثر إثارة، وأكثر راحة للوجدان المتشكك من قسوة الواقع. تتكاثر النظريات كما تتكاثر الطفيليات في جسد مرتبك، وكلما ازدادت الفوضى في العالم، تمددت شرايين الخرافة في الجسد الجماعي. من اغتيال كينيدي بيد حكومته، إلى فرار هتلر نحو أحضان أمريكا اللاتينية، إلى من يحلف بأن إلفيس بريسلي لا يزال حيًا يتجول في السوبر ماركت، أو أن بول مكارتني ليس بولًا، بل نسخة طبق الأصل تسللت إلى المجد على حين غفلة من التاريخ. القمر؟ مسرحية هوليودية رخيصة، يُقال إن «ناسا» أخرجتها بعناية والمخابرات الأمريكية وزعت أدوارها في الظل. بل إن هناك من يرى أن القمر مجرد إسقاط ضوئي، وهم سماوي يُستعرض علينا كل ليلة كعرض مسرحي نائم. وإذا رفعت رأسك إلى السماء ورأيت آثار الطائرات، فاعلم أن هناك من يؤمن بأننا نُرش مثل الحشرات، لا لمجرد التجربة، بل لتنظيم النسل، ونشر الأمراض، وخلق مناخ زراعي يضمن لشركات البذور الهيمنة على حياة الأرض ومن يزرعها. أما الأرض نفسها، فلم تسلم من خيالاتهم، فمنها من جعلها مسطحة كقطعة خبز يابسة، وآخرون حولوها إلى ثمرة مجوفة تسكنها حضارات مخفية، تعرف أكثر مما نعرف، وتضحك من سذاجة جغرافيا مدارسنا. وبعد أن اجتاح الوباء الأرض، ظهرت نظرية تقول إن اللقاحات ليست إلا وسيلة لزرع «رقائق دقيقة» في أجسادنا، تلتقطها هوائيات 5G، فتقرأ أجسادنا كما تُقرأ البضائع في الأسواق. بل إن هذه الهوائيات ذاتها، وفق بعضهم، مسؤولة عن إشعال الوباء، وربما عن أفكارنا المريضة. ثم تتراءى نظرية عن «ماركسية ثقافية» لا تقل جنونًا، تتهم اليسار بأنه يحاول بث أيديولوجيا المثلية والاعتداء على الأطفال. وكأن العالم ساحة معركة بين الخير الأبيض والشر الملون. وفي الخلفية، تعزف «نظرية الاستبدال العظيم» على وتر الخوف العنصري، إذ تتحدث عن مؤامرة كبرى لاستبدال الأوروبيين البيض بأفواج من المهاجرين المسلمين، تمهيدًا لتغيير تركيبة العالم الجينية والثقافية. حتى أحداث 11 سبتمبر لم تسلم من هذه الجوقة، حيث يعتقد البعض أن الهجمات كانت مسرحية داخلية أُخرجت بعناية لإحكام قبضة النظام على الحريات، وتعبيد الطريق نحو ديكتاتورية كونية. ثم تدخل ديزني على الخط، حيث يقال إن والت ديزني قد جُمد جسده في ثلاجة سرية في انتظار علاج للسرطان، وأن فيلم Frozen لم يُنتج إلا ليغطي على نتائج البحث لمن يكتب «Disney frozen»، فيبدو الفيلم بدلًا من الجثة. أما المنطقة 51، ذلك الجيب المنسي في رمال نيفادا، فهي بحسبهم ليست قاعدة عسكرية بل بوابة إلى عوالم أخرى، حيث تُشرح جثث الكائنات الفضائية وتُفكك مركباتهم كما تُفكك ألعاب الأطفال. كل هذا ليس خيالًا عابرًا، بل سردية كاملة تنسجها المخيلة الجمعية عندما تنهار الثقة، وتتآكل المعرفة، ويصبح العقل خائفًا من الحقيقة... وجائعًا لوهم أكثر طمأنينة.