في يوم ما وسط شوارع المدينة الصاخبة التي لا يهدأ ضجيجها، تاقت روحي لفكرة، وهي أن أهجر هذه المدينة وألوذ بقرية نائية تحجب عني صخبها المقلق. وما كان لهذه الفكرة أن تطفو على السطح إلا إثر مشاعر اكتسبتها بعد تجربة انقطاع طويل عن برامج التواصل الاجتماعي. وبدافع من فضول اجتاحني سؤال مباغت: ماذا لو ابتعدت عن وسائل التواصل كليًا وعشت تجربة فريدة في قرية نائية بعيدا عن التقنية؟ والسؤال بحد ذاته كان يعيد لروحي الوعي بحريتها المفقودة ويحررها من قيود لم تكن تعيها. أول ما تبادر لذهني وأنا أخط كلماتي هي الحرية، الحرية من أسر البرامج، ومن الدوبامين المتحفز وهو يتفاعل مع رغبات ومشاعر الإنسان الحديث، الحرية من الضغوط الاجتماعية التي تفرضها المثاليات والمقارنات، الحرية من الثقافة الاستهلاكية التي تفرغ العقل، وأن تعيش محجوبا عن ذاتك ومع كل ما يحول بينها وبين جوهرها الإنساني. ستشعر بحقيقة الملل ولكن لا بأس، فلولا الملل لما كانت الاكتشافات بل لولاه لما قامت الحضارات، فقد كانت تجربة الانقطاع عن وسائل التواصل مثيرة، ولن يسعني ذكر المنافع من تحسن في الصحة وزيادة في الإنتاجية وتوفير للوقت. وكل ما رغبت تقديمه مسألة تمس جوهر الإنسان، وتدعوه للرجوع لذاته ولكينونته الأصلية ولرأيه المستقل، ويطلق حواسه من أسر البرامج والتطبيقات التي سلبتنا حريتنا واستقلالنا الفكري. لقد غدت حياتنا رقمية وتقوم على احتياجات ورغبات وعلاقات تدار عبر الشبكات، وهذه البرامج استطاعت النفاذ لدواخلنا وأعماقنا حتى أحكمت بقبضتها على حياتنا ووضعت الحدود لها ضمن حركة دائبة لا تنتهي، ووسط معركة ضروس تستهدف خصوصية الإنسان حتى وصلت آخر معاقل خصوصيته: عقله. ومع هذا السيل الجارف من المعلومات والصور يخفت وهج العقل وتخور قدراته ويصبح عاجزا عن التمييز بين الخطأ والصواب، ويفقد معها ملكاته في النقد والتحليل وسائر ما يتشعب عن الفكر من بصيرة وتطور. قبل أن ينطلق الإنسان في عوالم العلوم ويخوض تحولات العصر، ويضع بصمته في كل الاتجاهات، ويلج بوابة الثورة الصناعية الرابعة بعنوانها الفريد: الذكاء الاصطناعي، أصبح من الضروري أن يتشبث الإنسان بكينونته الخاصة، فالإنسان هو الإنسان الأول مهما بلغ من التقدم، وإن لم يرسخ جذوره في نفسه تاه في زحمة المعلومات وتلاشت معها ابتكاراته وإبداعاته، فالنهضة الحقة تبدأ من داخل الإنسان. ووعي الإنسان بكينونته سيسهل عليه المضي قدما في مواجهة الصعاب والتحديات وتكون أهدافه أكثر وضوحا. كرست تجربة الانقطاع عن وسائل التواصل سلوكيات غير إرادية تجاه استثمار الوقت والشعور بمعاني الأشياء التي تزيد جودة حياتي بعيدا عن الانغماس في أدوات التقنية التي أصبحت في حياتي وسيلة لا غاية. علمتني تجربتي أن الإشكالية في طريقة تعاملنا مع وسائل التواصل لا في وسائل التواصل نفسها. تجربة العيش بعيدا عن المدن الحديثة تمنحك فرصة العيش كالإنسان الأول قبل أن يقتحم ضجيج المدن الرقمية. إنها دعوة لاكتشاف ذواتنا من جديد، أن تنفرد بنفسك وتكتب على الورق وتقرأ الكتاب وتلمس منبع العلوم الأول، وتنظر إلى السماء ببساطة وتفكر دون حاجة إلى فعل شيء.