بعد اثني عشر يومًا من تبادل الصواريخ والاغتيالات والخطابات النارية، وبقرار أمريكي، وضعت الحرب أوزارها بين إسرائيل وإيران. وفي خضم ادعاءات النصر المتناقرة من كلا الجانبين والمدعمة بخطابات رنانة، وبعيدًا عن الخسائر البشرية والمادية والنفسية، يطرح السؤال الجوهري: هل نجح الطرفان في إدارة إدراك الجماهير خلال هذه الأزمة؟ وما الرسائل التي حاولا بثها لتوجه دفة الحرب الإعلامية المصاحبة؟ فلم تعد الجماهير اليوم كالماضي، حيث كانت تتكاْ على مصدر إعلامي واحد ولغة موحدة لتعيش عليها حالاتها النفسية وانفعالاته الحربية ووحدتها الوطنية. لقد تجاوز المشهد الإعلامي التقليدي بكثير، ليصبح فضاءً مكشوفًا متعدد المصادر، ووعيًا جماهيريًا قادرًا على التمييز بين الحقائق والصور الزائفة. بعيدًا عن السرديات الحكومية ولم يعد مفهوم «هندسة الإجماع» (The Engineering of Consent) الذي أطلقه المفكر النمساوي الأمريكي إدوارد بيرنيز. والذي ينظر إلى الجمهور ككتلة واحدة يمكن تشكيلها وتوجيهها عبر التحكم بالمعلومات والسرديات المعروضة. وبناءً على فهمه للعقل اللاواعي، حيث اعتقد بيرنيز أنه بالإمكان السيطرة على الجماهير وإخضاعها لنمط موحد من التفكير والسلوك دون أن تدرك ذلك. لقد أثبتت هذه الفلسفة فعاليتها البالغة في حملات الدعاية الأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث استخدمت لتعبئة الرأي العام ودعم المجهود الحربي. ولكن، مع تعدد مصادر المعلومات، وتنوع السرديات، وانتشار المقاطع التي تكشف زيف بعض الروايات الإعلامية – كما حدث في الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران – أصبح التحكم بالجماهير أمرًا بالغ التعقيد. ففي ظل الأهداف المتغيرة لكل حرب إعلامية، تجد الشائعات والبروباجندا بيئة خصبة للانتشار، وتصبح الجماهير أكثر تعطشًا للأخبار، وتهيئة نفسية لتصديق ما يُعرض عليها بسرعة. وأكثر وعيًا لتميز ما بين الحقيقة والخرافة فآلية الإعلامية تعيش معركة كيف لها فهم إدراك الجماهير فهي تحارب على جبهات متعددة، مع التركيز على تحقيق التماسك الداخلي وإقناع الجمهور الخارجي. وهذا ما حصل للإعلام الإيراني في صراعه مع إسرائيل فهو ركز على قدسية الحرب ضد «العدو» ورفع الروح المعنوية للجماهير الداخلية. من خلال رفع الشعارات الدينية للداخل واستعراض القدرة على الصمود، وعرض القدرات الدفاعية لإسقاط الطائرات الإسرائيلية، وتصوير الهجمات الصاروخية على تل أبيب، وحتى استهداف المصالح الأمريكية في قاعدة العديد في قطر. هذا الخطاب كان يعاكسه خطاب إسرائيلي إعلامي من خلال بث رسائل مضادة تبين قدرتها على استهداف خصومها وقدرتها الاستخباراتية لاختراق الحصون الإيرانية واغتيال رجالات إيران في منازلهم وبغض النظر عن حجم الرسائل الإعلامية وأهدافها التي تحاول أن تبين تفوق طرف مقابل الآخر أو السرديات التي يتم بناؤها ودعمها بلقطات فيديو ومعالجات بالذكاء الاصطناعي، نجد أن القضية الكبرى أن الجماهير تستطيع أن تميز وتعرف الحقيقة، وتبقى الإشكالية قائمة في عالم يغرق بالمعلومات والسرديات المتضاربة، إلى أي مدى يمكن «هندسة» الإجماع وتشكيل الوعي الجمعي؟ وهل فقدت أدوات البروباجندا القديمة فعاليتها أمام وعي جماهيري متنامٍ ومصادر معلومات لا حصر له.