لم تعد أخبار التحرش في السعودية تمرّ بهدوء. كل واقعة تُوثق وتُنشر على نطاق واسع، كما حدث مؤخرًا حين انتشر مقطع فيديو يُظهر مجموعة من الشبان وهم يضايقون امرأتين في أحد شوارع الرياض، ما دفع السلطات للتدخل سريعًا وأسفر ذلك عن القبض على سبعة متحرشين في غضون ساعات. القصة التي كانت قبل سنوات تمضي في الظل أو تُهمّش بعبارات هشة من قبيل «تصرف فردي»، أصبحت اليوم قضية رأي عام. لكن ما يكشفه هذا التحول لا يقتصر على تجاوب الجهات الرسمية أو تطبيق القانون، بل يضعنا أمام سؤال أكثر تعقيدًا: لماذا لا يزال الفضاء العام بالنسبة للمرأة محفوفًا بالخطر؟ ولماذا يشعر البعض أن مجرد وجود المرأة في شارع عام يبيح لهم مضايقتها وكأن الأمر طبيعي أو مألوف؟ ما جرى لم يكن مجرد إساءة أو مضايقة عابرة، بل كان سلوكًا اعتدائيًا صريحًا يحمل في طياته نزعة للهيمنة وفرض السيطرة. ولم يكن المتحرشون يختبئون أو يتوارون، بل كانوا يتصرفون بثقة واستهتار، وكأن الشارع لهم وحدهم، وكأن المرأة إن ظهرت علنًا فهي تلقائيًا محل استهداف. التحرش في هذه الصورة لم يكن فعلًا عشوائيًا، بل تعبيرًا عن عقلية ترى أن المرأة إذا خرجت عن نطاق ما يُفترض أنه «مكانها المناسب» فهي تستحق المضايقة. وهذه «الأماكن المناسبة» في وعي بعضهم قد لا تتجاوز المنزل أو أماكن مغلقة بعيدة عن العلن. في ردود الفعل، لم يكن مستغربًا أن يُعاد طرح الأسئلة التقليدية: ماذا كانت تلبس؟ لماذا خرجت؟ متى وأين؟ في محاولة مكشوفة لتحويل الفعل المرفوض إلى فعلٍ يمكن تبريره أو التهوين منه. هذه الذهنية لا تزال تتعامل مع حضور المرأة في الفضاء العام وكأنه استثناء يحتاج إلى تبرير، وتتعامل مع شخصها كواجهة سطحية يمكن النظر إليها أو التعليق عليها، لا كإنسانة كاملة لها الحق في الحركة والأمان. رغم أن المملكة سنت قانونًا واضحًا وصارمًا لمكافحة التحرش منذ عام 2018، إلا أن المشكلة الأعمق لا تزال في النظرة الثقافية التي تحتاج إلى مراجعة شاملة. القانون ضروري، لكنه لا يكفي إذا لم يرافقه وعي تربوي ومجتمعي طويل المدى. نحتاج إلى إعادة صياغة مفهوم الفضاء المشترك في العقل الجمعي، وإلى ترسيخ القيم التي تؤمن بأن كرامة المرأة لا تُقاس بمدى حجبها عن الأنظار، بل بمدى احترام المجتمع لها في كل مكان وزمان. وزارة التعليم مثلًا يمكن أن تسهم بفعالية من خلال الأنشطة المدرسية والثقافية والفنية، والمسرح التربوي، والبرامج التوعوية، التي ترسّخ قيمة الاحترام بين الجنسين. نريد جيلًا يعرف أن الاعتداء على الآخرين، مهما كان شكله، هو تعدٍّ على القيم، وأن السلوك المسؤول يبدأ من الداخل، لا من ملابس الآخرين أو وجودهم. السبعة الذين تم القبض عليهم ليسوا حالة فردية منعزلة، بل انعكاس لخلل أعمق. ولن يكون كافيًا أن نحاسب الجناة فحسب، بل علينا أن نحاسب أيضًا الأفكار التي جعلت هؤلاء يظنون أن ما فعلوه عادي أو مقبول. فالتحرش ليس مجرد خطأ عابر، بل انتهاك صارخ يستحق الرفض المجتمعي الكامل، وليس التبرير أو الصمت. وإذا أردنا فعلًا أن تكون شوارعنا ومساحاتنا العامة آمنة، فعلينا أن ننتصر للضحية أولًا، وأن نربّي أبناءنا على أن الاحترام يبدأ من النظرة، لا من العقوبة فقط.