تفرغت حواضر الحجاز وبواديه لحياتها الخاصة، منصرفة عن الحياة العامة، تحت وطأة اليأس والحزن. يمكننا القول إن لدينا في هذا الركام الكثير من القصص والشعر أحداثًا كثيرة يمكن التثبت أو القطع بعدم وقوعها؛ وشعرًا كثيرًا يمكن القطع بانتحاله؛ كما أن لدينا أحداثًا تحتمل النفي والإثبات، وشعرًا يحتمل فيه الانتحال وصحة النسبة؛ وكل ذلك يمكن للدراسة أن تخرج به حتى في أقل القصص العذري مبالغة وأكثره توثيقًا تاريخيًا، مثل قصة جميل ابن معمر العذري وشخصيته وشعره. فما بالنا حين يتعلق الأمر بقصة المجنون العامري؟ هذا ما يجعلنا نرى أن المحصلة النهائية لمثل هذه الدراسة الشاقة - على فائدتها - تقل كثيرًا عما يبذل في سبيلها من عناء. ومع ذلك فقد بذل الدارسون فيها جهودًا ضخمة تستحق التنويه، بغية التحقيق التاريخي، ابتداء من مقابلة أبي الفرج الأصفهاني بين الأقوال المتضاربة في قصة المجنون، وانتهاء بدراسة الدكتور عبدالحميد إبراهيم لقصص العشاق النثرية، مرورًا بجهود طه حسين ومعالجته العقلية المنطقية لقصص الغزليين وشعرهم، وكذلك التوثيق التاريخي المضني الجاد الذي قام به كراتشكوفسكي بصبر وذكاء يدعوان إلى الإعجاب، والمعالجة الجادة التي قام بها الدكتور محمد غنيمي هلال لقصة المجنون في الأدب العربي القديم، في فصل من كتابه «الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية»، ولا نظن أن معالجة جديدة في هذا الاتجاه - في ضوء ما سبق - سوف تخطو بعيدًا في نتائجها عما حققه هؤلاء الباحثون. ومع هذا فسوف يظل أمامنا هذا القصص كله، حتى ما يمكن القطع بعدم صحته، وهذا الشعر الكثير، حتى ما يمكن تأكيد انتحاله، متطلبًا دراسة تكشف عما بداخله من مغزى، وما أنشئ من أجله من غاية. إن هذا القصص وهذا الشعر يفيضان بما في نفوس منشئيه، ويعبران عن هموم المرحلة التاريخية التي عاشها منشئوه، إلا أن الاتجاه السابق في الدراسات لم يوف ذلك حقه من البيان. كان طه حسين أول من تنبه من الدارسين إلى الأثر السياسي في نشأة القصص والشعر العذريين؛ فهو يعلل لاتجاه الحواضر إلى الغزل الإباحي أو ما يسميه (غزل المحققين)، على حين اتجهت البادية إلى هذا الغزل العف الذي تسيطر عليه روح الزهد والتصوف، بأن السياسة الأموية تجاه الحجاز - حواضره وبواديه - هي السبب الأساسي في ذلك؛ فقد (أساء خلفاء الشام ظنهم ببلاد العرب فعاملوها معاملة شديدة قاسية، وأخذوها بألوان من الحكم لا تخلو من العنف). لذلك تفرغت حواضر الحجاز وبواديه لحياتها الخاصة، منصرفة عن الحياة العامة، تحت وطأة اليأس والحزن. فأما الحواضر الحجازية فكان فيها ثراء ورخاء كبيرين، واليأس والثروة يدفعان إلى الانصراف إلى اللهو والمتعة والإغراق فيهما؛ وأما البوادي فكان فيها الفقر الشديد؛ واليأس والفقر يدفعان إلى الزهد والتصوف، خصوصًا مع تأثر أهلها بالإسلام والقرآن. ولعل هذا التفسير أقرب إلى الحقيقة من غيره من التعليلات التي جاءت من بعد؛ فالدكتور شكري فيصل يقصر نشأة الغزل العذري على العامل الديني وحده. ونحن لا ننفي تأثير العامل الديني في القصص العذري، إلا أننا لا نبلغ به مرتبة أن يكون العامل الوحيد في نشأتها، فضلا عن أن يكون العامل الأساسي في هذه النشأة. إن العامل الديني قد ظهر في تلوين التعبير في القصص والشعر العذريين بلون إسلامي، إلا أن سبب نشأة هذا القصص والشعر كان سياسيًا في أساسه، اجتماعيًا في المقام الثاني. 1983* * ناقد وأكاديمي مصري «1941 - 1997»