فليت رجالا فيك قد نذروا دمي وهمّوا بقتلي - يا بثين - لقوني إذا ما روأني طالعا من ثنية يقولون من هذا؟ وقد عرفوني يقولون لي: أهلا وسهلا ومرحبا ولو ظفروا بي غافلا قتلوني «جميل بن معمر العذري» في الأبيات التي جعلناها واجهة للموضوع تظهر صورة الفارس النبيل، الذي تقوم فروسيته على السمو الخلقي والسجايا الحميدة؛ فهي فروسية روحية ميدانها الحياة قبل أن تكون فروسية مادية ميدانها القتال؛ أما عدتها فالعفة والترفع عن الصغار وأخذ النفس بضوابط الخلق الرفيع، قبل أن تَعْتِد ما تتطلبه فروسية المادة من تصبر على الأذى الجسدي، والجرأة التي تضمن النصر أو تهدف إليه بأي سبيل، حتى بالغيلة كما يفعل اللصوص. فالفروسية العذرية إذن فروسية أخلاق لا فروسية عملية، أو هي مثالية السلوك المترفع عن الدنايا، تقوم على أسمى المشاعر الروحية: (الحب)، وأسمى الضوابط السلوكية: (العفة). فصورة الفارس في أبيات جميل صورة النبيل المترفع دون ادعاء، العاشق الذي يتعفف عن الانحدار إلى حمأة النفاق كما يفعل خصومه: يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ولو ظفروا بي غافلا قتلوني وينزه نفسه عن المخاتلة، والاحتماء خلف التجاهل الكاذب: يقولون من هذا، وقد عرفوني إنه لا ينسب لنفسه صفة ما، أو فعلا ما؛ إنما يثبت لنفسه ضد ما يصوره لخصومه من صفات ذميمة. فإذا ما تحدث عن نفسه كانت كلماته قليلة؛ إنها أمنية هينة، فليت هؤلاء (الرجال) يواجهونه مباشرة كي يتبين المحق من المبطل، والصادق من الكاذب. هكذا يصور جميل نفسه مثالًا للعذري: فارسا نبيلًا، وعاشقًا عفيفًا. ومن اليسير معرفة من يقصد إليهم جميل في أبياته، من خلال ما يروى من وقائع قصته العذرية، وكذلك نستطيع تحديد أسماء خصوم كل شاعر عاشق من خلال ما يروي من قصص عنه؛ فقد استفاضت هذه الأخبار وانتشرت، وكثرت المؤلفات التي قامت تحصي هذا القصص وتروي شعره، وتنولاه بالدراسة والتمحيص قديما وحديثا. ولكن إلى أي مدى يمكن الاعتماد على هذه الأخبار؟ وأي قدر في هذا القصص يصدقه الواقع ؟ هذه - في الحقيقة - هي المشكلة الأساسية التي ينبغي التريث أمامها بالدراسة. لقد طرح الدارسون القدماء هذه المشكلة للبحث؛ فأبو الفرج الأصفهاني في معالجته لقصة مجنون بني عامر الذي عرف باسم (مجنون ليلى) يبدي تشككه في وجود قيس أساسا، ويورد أقوال العلماء في ذلك، كالأصمعي والجاحظ، إلا أنه لا يستطيع حسم هذا الأمر، كما أن العلماء الذين أورد آراءهم لم يفعلوا ذلك، وظلت القضية مطروحة للمناقشة حتى عصرنا الحديث، إلا أن البحث فيها لم يتقدم كثيرا عما كان عليه أبو الفرج؛ فأمام طه حسين في إنكاره لوجود المجنون يقف كراتشكوفسكي مثبتا الشخصية التاريخية لقيس ومعشوقته ليلى، دون أن يستطيع واحد منهما ادعاء أن كلمته هي فيصل القضية. إن نتيجة البحث التاريخي المضني حول هذه الشخصية أو تلك من شخصيات القصص العذري أو الشعراء العذريين قد لا تستحق كل هذا العناء، لأنها ستسفر في النهاية إما عن إثبات هذا الحدث أو ذاك في القصة، وإثبات وجود هذه الشخصية أو تلك من الشخصيات، وإما إلى نفي كل ذلك. ومع هذا تبقى المشكلة قائمة كما هي؛ سوف يظل لدينا قصص وشعر ينحوان منحى محددا، لا بد له من تفسير وتعليل ودراسة. لنقل إن بعض هذه الأحداث صحيح، وبعضها مكذوب ومخترع؛ ولنقل إن بعض هذا القصص قد حدث في الواقع وبعضه قد لفقته الرواة، ولنقل أخيرا إن بعض الشعر الذي وصل إلينا صحيح النسبة وبعضه متزيد ومنحول، فسوف يظل السؤال قائما بعينه: لماذا حدث ذلك؟ وكيف حدث؟ 1983* * ناقد وأكاديمي مصري «1948- 1993» علي البطل